إعداد : ميلاد كوركيس
صاحب مشروع :
شخصيات صنعت ذاكرة الوطن
في قلب مدينة ماردين القديمة، حيث تتشابك أزقة الطين مع جدران التاريخ، ويمتزج ضوء الشمس الخافت برائحة البخور، وُلد يوحنا دولباني. لم يكن مولده مجرد حدث عابر؛ كان ميلاد روحٍ كانت ستتحمل عبء الزمن، وتكتب على الحجارة والكتب ما لم تستطع الذاكرة وحدها حفظه.
منذ طفولته المبكرة، لمس في المدينة وجعًا عميقًا، وحزنًا يختبئ خلف كل نافذة وأرضية. تعلم أن يسمع ما لا يسمعه الآخرون: نحيب الأجيال الضائعة، صدى الحروف التي تُمحى، صوت اللغة التي تكاد تنطفئ بين الألسنة. وبين هذه الأصوات صاغ صمته، صمتًا أشبه بصلوات لا تنتهي، صمتًا كان يحمل في طياته إدراكًا مبكرًا أن حياته ستكون صراعًا بين الأرض والسماء، بين الجسد والروح، بين المألوف والمفقود.

كبر يوحنا وكبرت فيه الحيرة بين البقاء في عالمه الضيق وبين الانطلاق نحو المعرفة. التقى الكتب كما يلتقي المجهول، وتعلّم السريانية والعربية والتركية، لا كوسائل للتفاهم فحسب، بل كجسورٍ تؤمّن للبشرية لغة النجاة من النسيان. كل صفحة قرأها كانت له تجربة روحية، وكل ترجمة أنجزها كانت محاولة لإحياء ما كاد أن يندثر.
في الدير، حيث اختبر الهدوء المتجذر في الجدران والأيقونات، تعلم أن الإيمان ليس مجرد طقوس، بل معرفةٌ صامتة تحيا في القلب قبل أن تُقال على الشفاه. وعندما جلس لأول مرة أمام المخطوطات السريانية القديمة، شعر بأن الكلمات نفسها تنتظره، ككائنات جريحة بحاجة إلى من يحمها. في هذه اللحظة، أدرك أن حياته ستتعلق بالكلمة، وأن الكتابة ستصبح صليبه ووسيلته للخلود.
بدأ خدمته الكهنوتية في أزمنة عصيبة، حيث الفقر والعزلة يحيطان بكل من تسلّق سلم المعرفة. لم يكن يبحث عن المجد أو الشهرة؛ كان يبحث عن الكلمات التي لم تُقال، عن الحروف التي لم تُكتب، عن الأرواح التي لم تُسمع. كان يرى أن الصمت أحيانًا أقوى من أي خطاب، وأن كل فعل يكتبه بالقلم هو معركة ضد النسيان.
مع مرور السنوات، صار يوحنا دولباني أكثر من مجرد كاهن. أصبح ذاكرة حية لماردين ولشعبه، حارسًا للغة وللتاريخ، ناشرًا للتراث السرياني. كان يرى كل حجرٍ في المدينة يحكي قصة شعبٍ كاد أن يندثر، وكل جدارٍ يحمل أسرارًا منسية. ولم يعرف الراحة، بل عاش بين المخطوطات والكتب والتراتيل، كمن يحاول أن يعيد بناء العالم بحبره.
حين تولى المطرانية، لم يكن منصبه وسيلة للسلطة، بل امتحانًا للصبر والتحمل. رأى أصدقاءه يرحلون، ورأى الكنائس تتهاوى، واللغة تتراجع. لكنه ظل صامدًا، يرى في كل تهجير وبُعد فرصة لإعادة الصياغة، لإحياء الكلمة، لإعادة الأمل. كل كتابٍ خطّه، كل ترجمة، كل مخطوطة كانت شهادة على أن المعرفة ليست ملكًا بل رسالة، وأن الخدمة الحقيقية هي أن يكون الإنسان صوتًا لمن لا صوت لهم.
وفي عزلة الليل، حين يشتدّ الصمت وتختفي الأصوات، كان يوحنا يجلس أمام أوراقه، يكتب، يقرأ، يُعيد قراءة ما كتب. كان يشعر بثقل الزمن، وبأن جسده ضعيف، لكنه يواصل؛ لأن كل دقيقة من الكتابة هي مقاومة للنسيان، وكل حرف هو محاولة لتأجيل النهاية. كان يقول في صمت نفسه: "ما دام القلم يتحرك، فلن يُهزم التاريخ."
ومع تقدّم السن، بدأ يشعر بأن الموت يقترب، لكنه لم يخافه. الخوف الوحيد كان من أن تُسكت الكلمة قبل أن تُكمل. فقد كان يعرف أن الإرث الحقيقي ليس في المباني ولا في الكنائس، بل في الحروف التي تُكتب والقصص التي تُروى. كل مساء كان يرفع عينيه إلى السماء، كأنما يسأل الله أن يمدّه بالقوة ليكتب الجملة الأخيرة، لتكتمل حياته بالكلمة، لا بالرحيل الصامت.
حين رحل، كان الدير صامتًا، والنور ضعيفًا. وُضع بجانبه كتاب مفتوح على صفحة لم تُكمل، كرمزٍ لحياة لم تكتمل بالكامل، ولرسالة لا تزال تُطلب منا أن نُكملها. لم يكن هناك بكاء كبير؛ بل كان الصمت طقسًا يليق برجلٍ قضى عمره في الكتابة والصلاة، في البحث عن معنى ما بين الطين والسماء.
لقد ترك المطران يوحنا دولباني إرثًا خالدًا: كتبًا ومخطوطات وترجمات، وروحًا لم تزل تحيا في من يقرأها. أصبح اسمه ترنيمة تُردد في الكنائس، ورمزًا للصمود والوفاء للغة وللتراث. لقد عاش ليُخاطب النسيان بالكلمة، ولعلها كانت المعركة الأهم في حياته: ألا يموت ما كتب.
اليوم، عندما نمشي في أزقة ماردين القديمة، وننظر إلى جدرانها الطينية، نحسّ بظل المطران يتبعنا، بصمته، بحبره، بكلماته التي لم تنتهِ، وكأن كل خطوة في المدينة تذكرنا بأن الإنسان قادر على أن يعيش عبر الكلمة حتى بعد الرحيل.
هكذا يكون الإنسان الذي لا يُكمل الجملة الأخيرة: يعيش بين الأرض والسماء، بين الألم والخلود، بين الصمت والكلمة، ويترك لنا إرثًا يعلّمنا كيف نحمل شعلة الذاكرة، كيف نكتب لنخلّد ما قد ينسى الآخرون. منقول من صفحة ميلاد كوركيس
#يوحنا_دولباني #ماردين #اللغة_السريانية #التراث_الروحي #سريان #تاريخ_كنسي #ملحمة_الروح #سيرة_أدبية #الهوية_السريانية #صراع_الأرض_والسماء #الذين_لا_يكملون_الجملة_الأخيرة #mxr #milad_korkis #ميلاد_كوركيس

