كانت المرة الأولى التي دفعني فيها الشوق والحنين لزيارة الوطن
بعد غياب سبع سنوات ، كان ذلك في ربيع عام 1984م .
هبطت الطائرة في مطار دمشق الدولي ، الساعة تشير إلى تمام
الخامسة صباحاً ، وبما أنني كنت قد حجزت على متن الطائرة
التي ستقلع من مطار دمشق إلى مطار القامشلي في السابعة والنصف
صباحاً ، كان يجب أن ننتظر ( أنا وزوجتي وطفلتي الصغيرة )
قرابة الساعتين لحين موعد الإقلاع .
في بهو المطار الداخلي لم يكن هناك الكثير من الناس ، بضعة
أشخاص فقط ، ربما كانوا من الذين يعملون هناك ، من بينهم شخصاً
واحداً كان يحمل بيده بندقيّة عسكريّة يتنقّل هنا وهناك ، فكان من
الواضح أنه أحّد عناصرأمن المطار .كان الصمت والهدوء يهيمنان
على المكان ، ونسمة الصباح الباردة تتغلغل بين الحين والآخر
عبر ذاك الباب الذي كان يُفتح أحياناً فتسري رعشة باردة بأجسادنا .
جلسنا هناك على مقعدٍ خشبي ننتظر ،كانت إبنتي في السنة الأولى
من عمرها ، بدأت تبكي ، فكان هذا شبه إنذار على موعد إعطائها
الحليب ، تحسست زوجتي الماء المتبقي في حافظ الحرارة (الترمس)
فوجدته قد بَرُدَ ، وأيضاً لايكفي ! فطلبت منيّ أن أفعل شيئاً .
في هذه الأثناء لمحتُ الشاب حامل البندقية قادماً بإتجاهنا ، فأنتظرتُ
إلى أن أصبح على مقربة منّا ، عندها ألقيتُ عليه السلام ، وسألته
إن كان من المستطاع مساعدتنا بتسخين قليلاً من الماء لنتمكن من
إعطاء إبنتنا الحليب ! فأجاب بدون تردد وقال : تكرم عينك ياأخي .
أعطيته الترمس فمضى ليعود بعد بضعة دقائق وقال: تفضّل ياأخي
ثمّ أكمل قائلاً : إن كنتم ترغبون بقليلاً من الشاي فسوف أجلب لكم
فالماء الساخنة جاهزة ! وبما أننا كنا نشعر بنسمةٍ باردة ، كان بالطبع
عرضهُ لايُرفض ، فقلتُ له : سنكون لكَ من الشاكرين .
بدأنا نشرب الشاي ونتحدث ، وطبعاً عرّفت عن نفسي ومن أين نحن
قادمون ، وعرّف هو أيضاً عن نفسه وقال: أسمي جورج من حمص
من قرية فيروزة ، وطال الحديث بيننا وامتدَّ وتشعّب ، ومن جملة
المواضيع التي تكلمنا عنها كان موضوع الغربة والإبتعاد عن الوطن
والأهل ، ومدى تأثيرها على الإنسان ، وما هي مزاياها وسيئاتها
وكيف يعود المغترب بعد سنوات قد تتبدّل المعالم عليه ، وتتغير
الوجوه ، وربما يلتقيكَ شخصاً مقرّباً إليك ولا يعرفكَ ، أو ربما
أنتَ لاتعرفه ،وأموراً كثيرة أخرى ناقشناها معاً ، والوقت يمضي
ونحن لاندري ، إلى أن بدأ المسافرون يتقاطرون شيئاً فشيء
وأخذت الحركة تزداد في المكان ، عندها نظرنا إلى الساعة وإذ
بها تشير إلى السادسة والنصف صباحاً ، ولم يبقى على موعد
إنطلاق الطائرة إلاَّ ساعة واحدة ، فاستأذنَ منّا الأخ جورج
وقال: لابدَّ ليّ أن أذهب إلى عملي ، فشكرناه على كل شيء !.
مكثنا جالسين على المقعد أنا وزوجتي وفي حضنها إبنتنا الصغيرة
ننتظر مرور الوقت ، والناس تأتي وتتزايد ،وفجأةً أرى شخصاً
قادماً يحمل بيده حقيبة سفر صغيرة ، شدّني هذا القادم ولفت نظري
وقلت بيني وبين نفسي : كأنني أعرف هذا الشخص ؟ لكن عندما
إقترب أكثر تأكدّت بأنه (خالي ) ! فقلتُ لزوجتي : أتعلمين من
يكون ذاك القادم ؟ قالت لا ! قلتُ : إنه خالي الصغير، يالها من
صدفة غير متوقعة !
بدأ خالي يقترب أكثر فأكثر ، وعندما أصبح على مقربة منّي
وقفتُ وبدأتُ أستعد لهذا اللقاء الجميل ، وقلتُ بيني وبين نفسي :
أكيد سوف ينظر الآن ويشاهدني ! لكن للأسف فتوقعاتي كلها
راحت سُدى ، وكانت دهشتي كبيرة عندما أصبح أمامي مباشرة
وأخذ ينظر إليَّ ويتمعنني من أسفل قدمي إلى قمّة رأسي ، ثمَّ
يتابع مسيرهُ ، في بادىء الأمر قلتُ ربما إشتبهَ فيَّ وأتضحَ له
أنني شخصاً آخر وكما يقول المثل : يُخلق من الشبه أربعين !
لكن عندما عادَ ثانية ووقف أمامي وفعلَ كما في المرّة الأولى
هُنا تأكدتُ مائة في المائة بأنه لم يعرفني ، فدفعني شيءٌ من
الفضول وأحببتُ أن أعرف السبب ، لهذا تمالكتُ أعصابي
وضغطتُ على نفسي وقلتُ : لابدَّ ليَّ أن أنتظر وأرى نهاية
هذه القصّة .
تكرر الذهاب والإيّاب وخالي في كل مرة يكرر نفس المشهد
ينظر إليَّ وعلامة الدهشة والتعجّب بادرة عليه ، يرمقني
بنظرات عميقة وطويلة وكأنه يحاول أن يتحقق من شيءٍ ما
أو يتأكد من سؤال ربما يكون قد حيَّرهُ ، وأنا كالعادة في كل
مرّة أقول : لا...هذه المرّة أكيد سيعرفني ، وأستعد للقاء
ولكنه يُخيّب ظني عندما يُكمل مسيره ويبتعد عنّي .
كانت زوجتي تلومني وتقول: لماذا تفعل ذلك ؟ لماذا لاتقول
لهُ أنتَ من تكون ؟ ...لماذا ؟..... ولماذا ؟. وكنتُ أقول لها:
إنتظري ... وإنتظري .! ونحن على هذا الحال ، وإذ فجأةً
أرى ضابط الأمن (جورج ) يسير على مسافة ليست ببعيدة
منَّا ، فندهتُ عليه وأشرتُ له بيدي كما لو أنني أُريد أن
أكلمهُ ،فجاءَ وقال : خير يافريد ، أتحتاج إلى مساعدة ؟
فابتسمتُ وقلت له : أشكرك ! لستُ بحاجة إلى شيء ، إنما
أحببتُ أن أذكرّكَ بالحديث الذي كنا نتناقش به قبل قليل عن
الغربة وما تسببه من إنعكاسات سلبيّة ، وكيف أن الفراق
الطويل يغير معالم وجه البشر ، قد لايعرف واحدهم الآخر
الآن لدي دليلٌ قاطع وإثباتٌ حقيقي على ذلك .!
قال: كيف ؟ قلتُ : أنظر إلى ذاك َ الشخص القادم إلى هُنا
قال: وما به ؟ قلتُ : إنه خالي ولكنه لم يعرفني ،ينظر إليَّ
ويتفحَّصني بعمق ثمَّ يُكمل مسيره ، فقال: أنظر ماذا سأفعل !
قلتُ: ولكن بشرط أن لاتكون قاسياً معه . قال: إطمئنْ .
فناداهُ قائلاً : أنتْ .! تعالَ إلى هُنا . فجاء خالي وعلى وجهه
قليلاً من الإرتباك ، خصوصاً وهو يرى السلاح بيده ، فعلم
أنه من قوى الأمن ، قال: نعم ماذا تريد مني ؟ ماذا فعلتُ ؟
فقال له : ماإسمكْ ؟
قال : إسمي متى !
قال : ومن أين أنت ؟
أجاب خالي : من القامشلي .!
قال : أأنت متأكد أنكَ من القامشلي ؟
قال خالي : لا أنا من المالكية ولكنني أعيش في القامشلي .
قال : عدني بأن تتكلّم كل شيء بصراحة ، وأقول هذا لمصلحتكَ .
أجابه خالي : إنني أعدكَ بهذا .!
فقال له : هل لديكَ أحّداً في بلاد المهجر ؟ أي هل لديكَ أحَّداً من
أقربائكَ قد تركَ الوطن وهاجر ؟
فأجابه خالي : لا
قال: أأنت متأكد من ذلك ؟
فصفنَ خالي قليلاً ثم قال : بلى ..بلى لديَّ أخي في ألمانيا .
فقال له : جيد.. تعجبني فيكَ صراحتكَ ، ولكن أهذا كل ما لديك؟
قال خالي : نعم
فقال له : ألا يوجد لديكَ أقرباء في غير ألمانيا ؟ على سبيل المثال
في السويد ، أو غير أماكن ؟
فأجابه خالي مباشرة: لا أبداً .! ولو كان لماذا سأُخفي عليك .
فقال له : فكر جيداً قبل أن تتورّط بإخفاء معلومات عن السلطة .
فبدأ خالي يفكر وراح يجول بنظره نحو الأعلى وفي كل الإتجاهات
ثم قال : الآن تذكرتُ ! لديَّ أبن أختي (فريد) في السويد ، سافرَ
منذ حوالي ستة أو سبع سنوات .
فقال له: الآن بدأتَ تعجبني ، ولكن إذا رأيتَ إبن إختكَ هذا هل ستعرفهُ ؟
فضحكَ خالي وقال : إنه لسؤال غريب ! كيف لا أعرفه وهو إبن أختي !
فقال له: أأنتَ متأكد من ذلك ؟
فضحك خالي مرّة أخرى من هذا السؤال وقال: نعم نعم بكل تأكيد .
وهنا لم يتمالك صاحبنا أعصابه أكثر من ذلك ، وأنا أنظر إليه وأعطيه
إشارة كي يتوقف عن طرح الأسئلة واللعب بالأعصاب ، فقد طفحَ الكيل.
فقال له : أنظر إلى هذا الواقف بجانبكَ ، أتعرفه ؟ من عساهُ يكون ؟
فنظر خالي في وجهي بكل تمعّن وتعمّق ثمَّ صرخ عالياً وقال بالعاميّة :
أوحْ ..أوحْ ..أوحْ بالمسيح هذا أبن أختي هوِّ .. هذا أبن أختي هوِّ ..!!!!
وهجمَ عليَّ وأخذني إلى صدره ، وهنا إبتدأ العناق والبكاء وراحت الدموع
تنهمر من المآقي لهذا اللقاء الغير منتظر ...!
بعد أن شكرتُ الأخ جورج وتمازحنا قليلاً ، ودَّعنا متمنياً لنا رحلة موفقة
ونحن بالمقابل طلبنا له التوفيق ، وبعد أن عرّفتُ خالي على زوجتي وطفلتنا الصغيرة ،
لأنها المرّة الأولى التي يلتقي بهم ، فقبَّلهم وأخذ طفلتي
بين ذراعيه وبدأ يدندن ويغني لها بصوته الجميل ( وهو بالفعل يملك
صوتاً جميلاً ) وبعد أن هدأ روعِنا وجلسنا على االمقعد ننتظر موعد
الصعود إلى الطائرة ، سألتهُ مستفسراً : كيف كنت ياخال في كل مرّة
تنظر إليَّ من أسفل إلى فوق ثمَّ تتابع مسيركَ ولا تعرفني ؟
فقال : إنني بالحقيقة كنت أنظر إلى طقمكَ الكحلي الجميل ، وحذاءُك
اللمّيع ، وربطة العنق الأنيقة ،وقميصكَ الناصع البياض ، وقامتكَ الممشوقة ،
كل شيءٍ فيكَ جعلني أعتقد بأنكَ ( كابتن الطائرة )
وأنا لأوّل مرّة في حياتي أرى فيها كابتن طائرة ! لهذا كنتُ أنظر
إليكَ أكثر وأكثر ولا أشبع من رؤيتكْ .....!
بعد بضعة سنوات صعد خالي سلم الطائرة وحلّقَ في الفضاء
ولكن ليس بإتجاه القامشلي هذه المرّة ، بل نحوَ بلاد الغربة
لينضم هو أيضاً إلى قافلة الغرباء المتشتتين في بقاع الأرض
والآن هو يقطن في مكانٍ ما، وأنا في مكانٍ آخر ، وكلانا ينظر
إلى القمر البديع الذي لازالَ يُضيء روابي وسهول ديريك الحبيبة.
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد
27- 10- 2012
بعد غياب سبع سنوات ، كان ذلك في ربيع عام 1984م .
هبطت الطائرة في مطار دمشق الدولي ، الساعة تشير إلى تمام
الخامسة صباحاً ، وبما أنني كنت قد حجزت على متن الطائرة
التي ستقلع من مطار دمشق إلى مطار القامشلي في السابعة والنصف
صباحاً ، كان يجب أن ننتظر ( أنا وزوجتي وطفلتي الصغيرة )
قرابة الساعتين لحين موعد الإقلاع .
في بهو المطار الداخلي لم يكن هناك الكثير من الناس ، بضعة
أشخاص فقط ، ربما كانوا من الذين يعملون هناك ، من بينهم شخصاً
واحداً كان يحمل بيده بندقيّة عسكريّة يتنقّل هنا وهناك ، فكان من
الواضح أنه أحّد عناصرأمن المطار .كان الصمت والهدوء يهيمنان
على المكان ، ونسمة الصباح الباردة تتغلغل بين الحين والآخر
عبر ذاك الباب الذي كان يُفتح أحياناً فتسري رعشة باردة بأجسادنا .
جلسنا هناك على مقعدٍ خشبي ننتظر ،كانت إبنتي في السنة الأولى
من عمرها ، بدأت تبكي ، فكان هذا شبه إنذار على موعد إعطائها
الحليب ، تحسست زوجتي الماء المتبقي في حافظ الحرارة (الترمس)
فوجدته قد بَرُدَ ، وأيضاً لايكفي ! فطلبت منيّ أن أفعل شيئاً .
في هذه الأثناء لمحتُ الشاب حامل البندقية قادماً بإتجاهنا ، فأنتظرتُ
إلى أن أصبح على مقربة منّا ، عندها ألقيتُ عليه السلام ، وسألته
إن كان من المستطاع مساعدتنا بتسخين قليلاً من الماء لنتمكن من
إعطاء إبنتنا الحليب ! فأجاب بدون تردد وقال : تكرم عينك ياأخي .
أعطيته الترمس فمضى ليعود بعد بضعة دقائق وقال: تفضّل ياأخي
ثمّ أكمل قائلاً : إن كنتم ترغبون بقليلاً من الشاي فسوف أجلب لكم
فالماء الساخنة جاهزة ! وبما أننا كنا نشعر بنسمةٍ باردة ، كان بالطبع
عرضهُ لايُرفض ، فقلتُ له : سنكون لكَ من الشاكرين .
بدأنا نشرب الشاي ونتحدث ، وطبعاً عرّفت عن نفسي ومن أين نحن
قادمون ، وعرّف هو أيضاً عن نفسه وقال: أسمي جورج من حمص
من قرية فيروزة ، وطال الحديث بيننا وامتدَّ وتشعّب ، ومن جملة
المواضيع التي تكلمنا عنها كان موضوع الغربة والإبتعاد عن الوطن
والأهل ، ومدى تأثيرها على الإنسان ، وما هي مزاياها وسيئاتها
وكيف يعود المغترب بعد سنوات قد تتبدّل المعالم عليه ، وتتغير
الوجوه ، وربما يلتقيكَ شخصاً مقرّباً إليك ولا يعرفكَ ، أو ربما
أنتَ لاتعرفه ،وأموراً كثيرة أخرى ناقشناها معاً ، والوقت يمضي
ونحن لاندري ، إلى أن بدأ المسافرون يتقاطرون شيئاً فشيء
وأخذت الحركة تزداد في المكان ، عندها نظرنا إلى الساعة وإذ
بها تشير إلى السادسة والنصف صباحاً ، ولم يبقى على موعد
إنطلاق الطائرة إلاَّ ساعة واحدة ، فاستأذنَ منّا الأخ جورج
وقال: لابدَّ ليّ أن أذهب إلى عملي ، فشكرناه على كل شيء !.
مكثنا جالسين على المقعد أنا وزوجتي وفي حضنها إبنتنا الصغيرة
ننتظر مرور الوقت ، والناس تأتي وتتزايد ،وفجأةً أرى شخصاً
قادماً يحمل بيده حقيبة سفر صغيرة ، شدّني هذا القادم ولفت نظري
وقلت بيني وبين نفسي : كأنني أعرف هذا الشخص ؟ لكن عندما
إقترب أكثر تأكدّت بأنه (خالي ) ! فقلتُ لزوجتي : أتعلمين من
يكون ذاك القادم ؟ قالت لا ! قلتُ : إنه خالي الصغير، يالها من
صدفة غير متوقعة !
بدأ خالي يقترب أكثر فأكثر ، وعندما أصبح على مقربة منّي
وقفتُ وبدأتُ أستعد لهذا اللقاء الجميل ، وقلتُ بيني وبين نفسي :
أكيد سوف ينظر الآن ويشاهدني ! لكن للأسف فتوقعاتي كلها
راحت سُدى ، وكانت دهشتي كبيرة عندما أصبح أمامي مباشرة
وأخذ ينظر إليَّ ويتمعنني من أسفل قدمي إلى قمّة رأسي ، ثمَّ
يتابع مسيرهُ ، في بادىء الأمر قلتُ ربما إشتبهَ فيَّ وأتضحَ له
أنني شخصاً آخر وكما يقول المثل : يُخلق من الشبه أربعين !
لكن عندما عادَ ثانية ووقف أمامي وفعلَ كما في المرّة الأولى
هُنا تأكدتُ مائة في المائة بأنه لم يعرفني ، فدفعني شيءٌ من
الفضول وأحببتُ أن أعرف السبب ، لهذا تمالكتُ أعصابي
وضغطتُ على نفسي وقلتُ : لابدَّ ليَّ أن أنتظر وأرى نهاية
هذه القصّة .
تكرر الذهاب والإيّاب وخالي في كل مرة يكرر نفس المشهد
ينظر إليَّ وعلامة الدهشة والتعجّب بادرة عليه ، يرمقني
بنظرات عميقة وطويلة وكأنه يحاول أن يتحقق من شيءٍ ما
أو يتأكد من سؤال ربما يكون قد حيَّرهُ ، وأنا كالعادة في كل
مرّة أقول : لا...هذه المرّة أكيد سيعرفني ، وأستعد للقاء
ولكنه يُخيّب ظني عندما يُكمل مسيره ويبتعد عنّي .
كانت زوجتي تلومني وتقول: لماذا تفعل ذلك ؟ لماذا لاتقول
لهُ أنتَ من تكون ؟ ...لماذا ؟..... ولماذا ؟. وكنتُ أقول لها:
إنتظري ... وإنتظري .! ونحن على هذا الحال ، وإذ فجأةً
أرى ضابط الأمن (جورج ) يسير على مسافة ليست ببعيدة
منَّا ، فندهتُ عليه وأشرتُ له بيدي كما لو أنني أُريد أن
أكلمهُ ،فجاءَ وقال : خير يافريد ، أتحتاج إلى مساعدة ؟
فابتسمتُ وقلت له : أشكرك ! لستُ بحاجة إلى شيء ، إنما
أحببتُ أن أذكرّكَ بالحديث الذي كنا نتناقش به قبل قليل عن
الغربة وما تسببه من إنعكاسات سلبيّة ، وكيف أن الفراق
الطويل يغير معالم وجه البشر ، قد لايعرف واحدهم الآخر
الآن لدي دليلٌ قاطع وإثباتٌ حقيقي على ذلك .!
قال: كيف ؟ قلتُ : أنظر إلى ذاك َ الشخص القادم إلى هُنا
قال: وما به ؟ قلتُ : إنه خالي ولكنه لم يعرفني ،ينظر إليَّ
ويتفحَّصني بعمق ثمَّ يُكمل مسيره ، فقال: أنظر ماذا سأفعل !
قلتُ: ولكن بشرط أن لاتكون قاسياً معه . قال: إطمئنْ .
فناداهُ قائلاً : أنتْ .! تعالَ إلى هُنا . فجاء خالي وعلى وجهه
قليلاً من الإرتباك ، خصوصاً وهو يرى السلاح بيده ، فعلم
أنه من قوى الأمن ، قال: نعم ماذا تريد مني ؟ ماذا فعلتُ ؟
فقال له : ماإسمكْ ؟
قال : إسمي متى !
قال : ومن أين أنت ؟
أجاب خالي : من القامشلي .!
قال : أأنت متأكد أنكَ من القامشلي ؟
قال خالي : لا أنا من المالكية ولكنني أعيش في القامشلي .
قال : عدني بأن تتكلّم كل شيء بصراحة ، وأقول هذا لمصلحتكَ .
أجابه خالي : إنني أعدكَ بهذا .!
فقال له : هل لديكَ أحّداً في بلاد المهجر ؟ أي هل لديكَ أحَّداً من
أقربائكَ قد تركَ الوطن وهاجر ؟
فأجابه خالي : لا
قال: أأنت متأكد من ذلك ؟
فصفنَ خالي قليلاً ثم قال : بلى ..بلى لديَّ أخي في ألمانيا .
فقال له : جيد.. تعجبني فيكَ صراحتكَ ، ولكن أهذا كل ما لديك؟
قال خالي : نعم
فقال له : ألا يوجد لديكَ أقرباء في غير ألمانيا ؟ على سبيل المثال
في السويد ، أو غير أماكن ؟
فأجابه خالي مباشرة: لا أبداً .! ولو كان لماذا سأُخفي عليك .
فقال له : فكر جيداً قبل أن تتورّط بإخفاء معلومات عن السلطة .
فبدأ خالي يفكر وراح يجول بنظره نحو الأعلى وفي كل الإتجاهات
ثم قال : الآن تذكرتُ ! لديَّ أبن أختي (فريد) في السويد ، سافرَ
منذ حوالي ستة أو سبع سنوات .
فقال له: الآن بدأتَ تعجبني ، ولكن إذا رأيتَ إبن إختكَ هذا هل ستعرفهُ ؟
فضحكَ خالي وقال : إنه لسؤال غريب ! كيف لا أعرفه وهو إبن أختي !
فقال له: أأنتَ متأكد من ذلك ؟
فضحك خالي مرّة أخرى من هذا السؤال وقال: نعم نعم بكل تأكيد .
وهنا لم يتمالك صاحبنا أعصابه أكثر من ذلك ، وأنا أنظر إليه وأعطيه
إشارة كي يتوقف عن طرح الأسئلة واللعب بالأعصاب ، فقد طفحَ الكيل.
فقال له : أنظر إلى هذا الواقف بجانبكَ ، أتعرفه ؟ من عساهُ يكون ؟
فنظر خالي في وجهي بكل تمعّن وتعمّق ثمَّ صرخ عالياً وقال بالعاميّة :
أوحْ ..أوحْ ..أوحْ بالمسيح هذا أبن أختي هوِّ .. هذا أبن أختي هوِّ ..!!!!
وهجمَ عليَّ وأخذني إلى صدره ، وهنا إبتدأ العناق والبكاء وراحت الدموع
تنهمر من المآقي لهذا اللقاء الغير منتظر ...!
بعد أن شكرتُ الأخ جورج وتمازحنا قليلاً ، ودَّعنا متمنياً لنا رحلة موفقة
ونحن بالمقابل طلبنا له التوفيق ، وبعد أن عرّفتُ خالي على زوجتي وطفلتنا الصغيرة ،
لأنها المرّة الأولى التي يلتقي بهم ، فقبَّلهم وأخذ طفلتي
بين ذراعيه وبدأ يدندن ويغني لها بصوته الجميل ( وهو بالفعل يملك
صوتاً جميلاً ) وبعد أن هدأ روعِنا وجلسنا على االمقعد ننتظر موعد
الصعود إلى الطائرة ، سألتهُ مستفسراً : كيف كنت ياخال في كل مرّة
تنظر إليَّ من أسفل إلى فوق ثمَّ تتابع مسيركَ ولا تعرفني ؟
فقال : إنني بالحقيقة كنت أنظر إلى طقمكَ الكحلي الجميل ، وحذاءُك
اللمّيع ، وربطة العنق الأنيقة ،وقميصكَ الناصع البياض ، وقامتكَ الممشوقة ،
كل شيءٍ فيكَ جعلني أعتقد بأنكَ ( كابتن الطائرة )
وأنا لأوّل مرّة في حياتي أرى فيها كابتن طائرة ! لهذا كنتُ أنظر
إليكَ أكثر وأكثر ولا أشبع من رؤيتكْ .....!
بعد بضعة سنوات صعد خالي سلم الطائرة وحلّقَ في الفضاء
ولكن ليس بإتجاه القامشلي هذه المرّة ، بل نحوَ بلاد الغربة
لينضم هو أيضاً إلى قافلة الغرباء المتشتتين في بقاع الأرض
والآن هو يقطن في مكانٍ ما، وأنا في مكانٍ آخر ، وكلانا ينظر
إلى القمر البديع الذي لازالَ يُضيء روابي وسهول ديريك الحبيبة.
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد
27- 10- 2012