هكذا تفعل الغربة ! بقلم :فريد توما مراد

أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
فريد توما مراد
عضو
عضو
مشاركات: 764
اشترك في: الجمعة أغسطس 31, 2012 9:00 am

هكذا تفعل الغربة ! بقلم :فريد توما مراد

مشاركة بواسطة فريد توما مراد »

كانت المرة الأولى التي دفعني فيها الشوق والحنين لزيارة الوطن
بعد غياب سبع سنوات ، كان ذلك في ربيع عام 1984م .
هبطت الطائرة في مطار دمشق الدولي ، الساعة تشير إلى تمام
الخامسة صباحاً ، وبما أنني كنت قد حجزت على متن الطائرة
التي ستقلع من مطار دمشق إلى مطار القامشلي في السابعة والنصف
صباحاً ، كان يجب أن ننتظر ( أنا وزوجتي وطفلتي الصغيرة )
قرابة الساعتين لحين موعد الإقلاع .
في بهو المطار الداخلي لم يكن هناك الكثير من الناس ، بضعة
أشخاص فقط ، ربما كانوا من الذين يعملون هناك ، من بينهم شخصاً
واحداً كان يحمل بيده بندقيّة عسكريّة يتنقّل هنا وهناك ، فكان من
الواضح أنه أحّد عناصرأمن المطار .كان الصمت والهدوء يهيمنان
على المكان ، ونسمة الصباح الباردة تتغلغل بين الحين والآخر
عبر ذاك الباب الذي كان يُفتح أحياناً فتسري رعشة باردة بأجسادنا .
جلسنا هناك على مقعدٍ خشبي ننتظر ،كانت إبنتي في السنة الأولى
من عمرها ، بدأت تبكي ، فكان هذا شبه إنذار على موعد إعطائها
الحليب ، تحسست زوجتي الماء المتبقي في حافظ الحرارة (الترمس)
فوجدته قد بَرُدَ ، وأيضاً لايكفي ! فطلبت منيّ أن أفعل شيئاً .
في هذه الأثناء لمحتُ الشاب حامل البندقية قادماً بإتجاهنا ، فأنتظرتُ
إلى أن أصبح على مقربة منّا ، عندها ألقيتُ عليه السلام ، وسألته
إن كان من المستطاع مساعدتنا بتسخين قليلاً من الماء لنتمكن من
إعطاء إبنتنا الحليب ! فأجاب بدون تردد وقال : تكرم عينك ياأخي .
أعطيته الترمس فمضى ليعود بعد بضعة دقائق وقال: تفضّل ياأخي
ثمّ أكمل قائلاً : إن كنتم ترغبون بقليلاً من الشاي فسوف أجلب لكم
فالماء الساخنة جاهزة ! وبما أننا كنا نشعر بنسمةٍ باردة ، كان بالطبع
عرضهُ لايُرفض ، فقلتُ له : سنكون لكَ من الشاكرين .
بدأنا نشرب الشاي ونتحدث ، وطبعاً عرّفت عن نفسي ومن أين نحن
قادمون ، وعرّف هو أيضاً عن نفسه وقال: أسمي جورج من حمص
من قرية فيروزة ، وطال الحديث بيننا وامتدَّ وتشعّب ، ومن جملة
المواضيع التي تكلمنا عنها كان موضوع الغربة والإبتعاد عن الوطن
والأهل ، ومدى تأثيرها على الإنسان ، وما هي مزاياها وسيئاتها
وكيف يعود المغترب بعد سنوات قد تتبدّل المعالم عليه ، وتتغير
الوجوه ، وربما يلتقيكَ شخصاً مقرّباً إليك ولا يعرفكَ ، أو ربما
أنتَ لاتعرفه ،وأموراً كثيرة أخرى ناقشناها معاً ، والوقت يمضي
ونحن لاندري ، إلى أن بدأ المسافرون يتقاطرون شيئاً فشيء
وأخذت الحركة تزداد في المكان ، عندها نظرنا إلى الساعة وإذ
بها تشير إلى السادسة والنصف صباحاً ، ولم يبقى على موعد
إنطلاق الطائرة إلاَّ ساعة واحدة ، فاستأذنَ منّا الأخ جورج
وقال: لابدَّ ليّ أن أذهب إلى عملي ، فشكرناه على كل شيء !.
مكثنا جالسين على المقعد أنا وزوجتي وفي حضنها إبنتنا الصغيرة
ننتظر مرور الوقت ، والناس تأتي وتتزايد ،وفجأةً أرى شخصاً
قادماً يحمل بيده حقيبة سفر صغيرة ، شدّني هذا القادم ولفت نظري
وقلت بيني وبين نفسي : كأنني أعرف هذا الشخص ؟ لكن عندما
إقترب أكثر تأكدّت بأنه (خالي ) ! فقلتُ لزوجتي : أتعلمين من
يكون ذاك القادم ؟ قالت لا ! قلتُ : إنه خالي الصغير، يالها من
صدفة غير متوقعة !
بدأ خالي يقترب أكثر فأكثر ، وعندما أصبح على مقربة منّي
وقفتُ وبدأتُ أستعد لهذا اللقاء الجميل ، وقلتُ بيني وبين نفسي :
أكيد سوف ينظر الآن ويشاهدني ! لكن للأسف فتوقعاتي كلها
راحت سُدى ، وكانت دهشتي كبيرة عندما أصبح أمامي مباشرة
وأخذ ينظر إليَّ ويتمعنني من أسفل قدمي إلى قمّة رأسي ، ثمَّ
يتابع مسيرهُ ، في بادىء الأمر قلتُ ربما إشتبهَ فيَّ وأتضحَ له
أنني شخصاً آخر وكما يقول المثل : يُخلق من الشبه أربعين !
لكن عندما عادَ ثانية ووقف أمامي وفعلَ كما في المرّة الأولى
هُنا تأكدتُ مائة في المائة بأنه لم يعرفني ، فدفعني شيءٌ من
الفضول وأحببتُ أن أعرف السبب ، لهذا تمالكتُ أعصابي
وضغطتُ على نفسي وقلتُ : لابدَّ ليَّ أن أنتظر وأرى نهاية
هذه القصّة .
تكرر الذهاب والإيّاب وخالي في كل مرة يكرر نفس المشهد
ينظر إليَّ وعلامة الدهشة والتعجّب بادرة عليه ، يرمقني
بنظرات عميقة وطويلة وكأنه يحاول أن يتحقق من شيءٍ ما
أو يتأكد من سؤال ربما يكون قد حيَّرهُ ، وأنا كالعادة في كل
مرّة أقول : لا...هذه المرّة أكيد سيعرفني ، وأستعد للقاء
ولكنه يُخيّب ظني عندما يُكمل مسيره ويبتعد عنّي .
كانت زوجتي تلومني وتقول: لماذا تفعل ذلك ؟ لماذا لاتقول
لهُ أنتَ من تكون ؟ ...لماذا ؟..... ولماذا ؟. وكنتُ أقول لها:
إنتظري ... وإنتظري .! ونحن على هذا الحال ، وإذ فجأةً
أرى ضابط الأمن (جورج ) يسير على مسافة ليست ببعيدة
منَّا ، فندهتُ عليه وأشرتُ له بيدي كما لو أنني أُريد أن
أكلمهُ ،فجاءَ وقال : خير يافريد ، أتحتاج إلى مساعدة ؟
فابتسمتُ وقلت له : أشكرك ! لستُ بحاجة إلى شيء ، إنما
أحببتُ أن أذكرّكَ بالحديث الذي كنا نتناقش به قبل قليل عن
الغربة وما تسببه من إنعكاسات سلبيّة ، وكيف أن الفراق
الطويل يغير معالم وجه البشر ، قد لايعرف واحدهم الآخر
الآن لدي دليلٌ قاطع وإثباتٌ حقيقي على ذلك .!
قال: كيف ؟ قلتُ : أنظر إلى ذاك َ الشخص القادم إلى هُنا
قال: وما به ؟ قلتُ : إنه خالي ولكنه لم يعرفني ،ينظر إليَّ
ويتفحَّصني بعمق ثمَّ يُكمل مسيره ، فقال: أنظر ماذا سأفعل !
قلتُ: ولكن بشرط أن لاتكون قاسياً معه . قال: إطمئنْ .
فناداهُ قائلاً : أنتْ .! تعالَ إلى هُنا . فجاء خالي وعلى وجهه
قليلاً من الإرتباك ، خصوصاً وهو يرى السلاح بيده ، فعلم
أنه من قوى الأمن ، قال: نعم ماذا تريد مني ؟ ماذا فعلتُ ؟
فقال له : ماإسمكْ ؟
قال : إسمي متى !
قال : ومن أين أنت ؟
أجاب خالي : من القامشلي .!
قال : أأنت متأكد أنكَ من القامشلي ؟
قال خالي : لا أنا من المالكية ولكنني أعيش في القامشلي .
قال : عدني بأن تتكلّم كل شيء بصراحة ، وأقول هذا لمصلحتكَ .
أجابه خالي : إنني أعدكَ بهذا .!
فقال له : هل لديكَ أحّداً في بلاد المهجر ؟ أي هل لديكَ أحَّداً من
أقربائكَ قد تركَ الوطن وهاجر ؟
فأجابه خالي : لا
قال: أأنت متأكد من ذلك ؟
فصفنَ خالي قليلاً ثم قال : بلى ..بلى لديَّ أخي في ألمانيا .
فقال له : جيد.. تعجبني فيكَ صراحتكَ ، ولكن أهذا كل ما لديك؟
قال خالي : نعم
فقال له : ألا يوجد لديكَ أقرباء في غير ألمانيا ؟ على سبيل المثال
في السويد ، أو غير أماكن ؟
فأجابه خالي مباشرة: لا أبداً .! ولو كان لماذا سأُخفي عليك .
فقال له : فكر جيداً قبل أن تتورّط بإخفاء معلومات عن السلطة .
فبدأ خالي يفكر وراح يجول بنظره نحو الأعلى وفي كل الإتجاهات
ثم قال : الآن تذكرتُ ! لديَّ أبن أختي (فريد) في السويد ، سافرَ
منذ حوالي ستة أو سبع سنوات .
فقال له: الآن بدأتَ تعجبني ، ولكن إذا رأيتَ إبن إختكَ هذا هل ستعرفهُ ؟
فضحكَ خالي وقال : إنه لسؤال غريب ! كيف لا أعرفه وهو إبن أختي !
فقال له: أأنتَ متأكد من ذلك ؟
فضحك خالي مرّة أخرى من هذا السؤال وقال: نعم نعم بكل تأكيد .
وهنا لم يتمالك صاحبنا أعصابه أكثر من ذلك ، وأنا أنظر إليه وأعطيه
إشارة كي يتوقف عن طرح الأسئلة واللعب بالأعصاب ، فقد طفحَ الكيل.
فقال له : أنظر إلى هذا الواقف بجانبكَ ، أتعرفه ؟ من عساهُ يكون ؟
فنظر خالي في وجهي بكل تمعّن وتعمّق ثمَّ صرخ عالياً وقال بالعاميّة :
أوحْ ..أوحْ ..أوحْ بالمسيح هذا أبن أختي هوِّ .. هذا أبن أختي هوِّ ..!!!!
وهجمَ عليَّ وأخذني إلى صدره ، وهنا إبتدأ العناق والبكاء وراحت الدموع
تنهمر من المآقي لهذا اللقاء الغير منتظر ...!
بعد أن شكرتُ الأخ جورج وتمازحنا قليلاً ، ودَّعنا متمنياً لنا رحلة موفقة
ونحن بالمقابل طلبنا له التوفيق ، وبعد أن عرّفتُ خالي على زوجتي وطفلتنا الصغيرة ،
لأنها المرّة الأولى التي يلتقي بهم ، فقبَّلهم وأخذ طفلتي
بين ذراعيه وبدأ يدندن ويغني لها بصوته الجميل ( وهو بالفعل يملك
صوتاً جميلاً ) وبعد أن هدأ روعِنا وجلسنا على االمقعد ننتظر موعد
الصعود إلى الطائرة ، سألتهُ مستفسراً : كيف كنت ياخال في كل مرّة
تنظر إليَّ من أسفل إلى فوق ثمَّ تتابع مسيركَ ولا تعرفني ؟
فقال : إنني بالحقيقة كنت أنظر إلى طقمكَ الكحلي الجميل ، وحذاءُك
اللمّيع ، وربطة العنق الأنيقة ،وقميصكَ الناصع البياض ، وقامتكَ الممشوقة ،
كل شيءٍ فيكَ جعلني أعتقد بأنكَ ( كابتن الطائرة )
وأنا لأوّل مرّة في حياتي أرى فيها كابتن طائرة ! لهذا كنتُ أنظر
إليكَ أكثر وأكثر ولا أشبع من رؤيتكْ .....!
بعد بضعة سنوات صعد خالي سلم الطائرة وحلّقَ في الفضاء
ولكن ليس بإتجاه القامشلي هذه المرّة ، بل نحوَ بلاد الغربة
لينضم هو أيضاً إلى قافلة الغرباء المتشتتين في بقاع الأرض
والآن هو يقطن في مكانٍ ما، وأنا في مكانٍ آخر ، وكلانا ينظر
إلى القمر البديع الذي لازالَ يُضيء روابي وسهول ديريك الحبيبة.


فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد
27- 10- 2012

صورة العضو الرمزية
إسحق القس افرام
مدير الموقع
مدير الموقع
مشاركات: 49764
اشترك في: السبت إبريل 17, 2010 8:46 am
مكان: السويد

Re: هكذا تفعل الغربة ! بقلم :فريد توما مراد

مشاركة بواسطة إسحق القس افرام »

قصة رائعة جداً
تحوي بين اسطرها آلم الأغتراب وعذابه
يعاني منها كل إنسان موجود على الكرة الأرضية وكل على طبيعته
تحياتي لزوجتك القديرة ولأبنتك الفاضلة ولشخصكم النبيل.
أشكرك جزيل الشكر على السرد الجميل وأقولها بصراحة
اخي القدير والأديب السرياني الكريم ابن ديريك فريد
وفقك الله
[/color]
:croes1: فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ :croes1:
صورة
صورة
أضف رد جديد

العودة إلى ”منتدى الكاتب والراوي فريد توما مراد“