صوتُ صفيرِ البلبل . بقلم : فريد توما مراد
مرسل: السبت نوفمبر 03, 2012 2:06 am
صوتُ صفير البلبلِ
كما تفرح الأم بمولودها الجديد
هكذا يفرح الشاعر بمولوده الجديد أيضاً
وكما تهفو الأم على إبنها فترعاهُ وتهبهُ الحب والحنان
وترى فيه مستقبل حياتها وسعادتها
هكذا الشاعر أيضاً يهفو على مولوده ويعطيه كل الحب
والحنان ، ويرى فيه مستقبل حياته وسعادته
الأم والشاعر كلاهما واحد ، يملكان نفس المشاعر
والأحاسيس تجاه مولودهم ، والفرق بين تلكَ وذاكْ
هو مدّت الحمل ! فتكون عند الأم تقريباً محددة
أما عند الكاتب فهي غير محددة ، قد تكون أيام أو أشهر أو سنين !.
في الماضي البعيد كانت القبيلة والعشيرة تفتخر
بشعرائها ، كان للشاعر مكانة كبيرة ، ومنزلة رفيعة
ويقال عندما كان أحّدهم يمر بجانب قرية ما ، كان
أهلها يسرعون ويهرعون للقاءهذا الشاعر ، وكانوا
يقدمون إليه الهدايا ، ويتحايلون عليه كي يُعرّج
ويكون ضيفهم ، لا بل في بعض الأحيان كانوا
يتمنوا أن يصاهرهم ويتكرم ويأخذ إحدى بناتهم.
لم تكن مكانة الشعراء فقط عند العوام ، بل عند
الأمراء والسلاطين والملوك والخلفاء.....أيضاً
وكانوا يتفاخرون ويتسابقون بإكرامهم وخلع الهدايا
عليهم من المال والذهب والفضّة ، خصوصاً في
قصائد المدح لهم ، والقذح لأعدائهم .
يُقالْ أن الخليفة أبي جعفر المنصور كان حريصاً
جدّاً على بيت المال ، فلا يُكرم الشعراء بحسب
العادة المتّبعة وكما يُليق بهم ، وكان قد أتّخذ حيلة
يُجريها عليهم ، فكان يشترط على الشاعر قبل أن
يقول قصيدتهُ ، إذا لم يكن قد سمعها قبل هذه المرّة
فسوف يعطيهِ ذهباً بمقدار وزن ما كُتبت عليه
القصيدة ، أمّا إذا سمعها هو أو أحّداً غيره من
قبل فلا يأخذ شيئاً ! وُيقال أن الخليفة كان يحفظ
القصيدة من أول مرّة ، وعنده غلاماً يحفظها من
ثاني مرّة ، وجارية تحفظها من ثالث مرّة ، فعندما
يقول الشاعر قصيدته وينتهي ، يقول له الخليفة :
هذه قد سمعتها سابقاً ، ويبدأ بإلقائها عليه ، وعندما
ينتهي يقول: إذا أردّتَ أن تتأكد أكثر فلديَّ غلام
وجارية قد سمِعاها أيضاً ، (ويكونان قد إختبأَ
خلف الستارة وسمِعا كل شيء ) فَيأمر بإحضارهم
فيقولان القصيدة كما هي ، فيعود الشاعر المسكين
خائباً حزيناً .
كان الشعراء جالسون وعلامات الكلل والملل
بادية عليهم ، عندما دخل عليهم الشاعر الأصمعي
ورآهم هكذا فقال: مابكم ؟ فأخبروه بقصتهم مع الخليفة
وهم في يأسٍ شديد ، و قالوا: الأغرب ما في الأمر إننا
نكتب القصيدة في المساء ، ونذهب في الصباح لنلاقي
القصيدة قد سُرقت وقيلت من قبل .!
فعلِمَ الأصمعي أن في الأمر حيلة ، وكان ذكيَّاً جدّا.ً
بعد أيام قلائل طلب الأصمعي أن يؤذن له بالدخول
على الخليفة ليلقي عليه قصيدته ، فأُذن له ، فدخل
فقال له الخليفة : أتعرف الشروط ياأصمعي ؟
فقال : نعم أعرفها جيّداً يامولاي .
فقال له الخليفة : هاتْ إذاً إسمعنا مالديك .
فقال الأصمعي : قصيدتي يامولاي هي بعنوان
( صوتُ صفير البلبلِ )
فقال الخليفة بينه وبين نفسه لابدَّ أنها سهلة وهذا واضحٌ
من مطلعها .
فقال الأصمعي :
صوتُ صفير البلبلِ
هيَّجَ قلبي الثملِ
الماءُ والزهرُ معاً
مع زهر لحظِ المقلِ
وأنتَ ياسيدَ لي
وسيدي ومولى لي
فكم فكم تيّمُ لي
غزيّلٌ عُقيقلي
قطفتهُ من وجنة
من لثمِ وردِ الخجلِ
فقالَ: لالالالالا
وقد غدا مُهرولِ
والخودُ مالت طرباً
من فعلِ هذا الرجلِ
فولولت وولولتْ
فلي ولي ياويلا ليْ
فقلتُ لاتولولي
وبيّني اللؤلؤ ليْ
قالت له حينا كذا
أنهض وجِد بالمُقلِ
وفتيةٍ سقوا نني
قهوةٌ كالعسلَ لي
شممتها بأنفي
أزكى منَ القرنفلِ
في وسطِ بستانٍ حلي
بالزهرِ والسرور لي
والعودُ دنْ دنْ دنا لي
والطبلُ طبْ طبَ لي
طب طبطب طب طب
طبطب طب طابَ لي
والسقفُ سق سقَ لي
والرقصُ قد طابَ لي
شَوى شتوى وشاه شو
على ورق سفرجلِ
وغرّد القمري يصيح
مَللٌ في مللِ
ولو تراني راكباً
على حمارٌ أهزلِ
يمشي على ثلاثةٍ
كمشيةَ العرنجلي
والناسُ ترجم جملِ
في السوقِ بالقلقللي
والكلُ كعكع كعي كع
خلفي ومن حويللي
لكن مشيتُ هارباً
من خشيتِ العقنقلي
إلى لقاءِ ملكٍ
معظّمٍ مُبجلِ
يأمر لي بخلعةٍ
حمراءُ كالدم دَملي
أجرُ فيها ماشياً
مُبغدداً للذيلِ
أنا الأديب الألمعي
من حي أرض الموصلِ
نظمتُ قطعاً زُخرفت
يعجزُ عنها الأدبلي
أقولُ في مطلعها
صوتُ صفير البُلبُلِ .
عندما إنتهى الأصمعي من إلقاء قصيدتهُ ، وقفَ الخليفة
في حيرة ووضع يده على ذقنه وأخذ يصفن ، لأنه لم
يحفظ منها شيئاً سوى مطلعها فقط ، وهو قد يحتاج لأيّام
عديدة لكي يستطيع أن يحفظ الطبطبات والكعكعات
المذكورة فيها ، فقال: إندهوا ليّ على الغلام والجارية
فلمّا حضروا بين يديه قالَ للغلام : أسمِعتَ من قبل
قصيدة مطلعها صوتُ صفير البلبلِ ؟ فقال الغلام :
صوتُ صفير البلبل هيّج قلبي ال......ثمَّ بدأ يتلعثم
في الكلام ، فقالَ لهُ الخليفة : إخرس ! قبَّحَ الله وجهك
وأنتِ أيّتها الجارية هل سمعتيها من قبل ؟ فقالت :
أبداً يامولاي ! فقال: إغربا من أمام وجهي .
ثمَّ قال : هات ياأصمعي وأعطينا ماكتبتَ عليهِ
قصيدتكَ لنزنْ لكَ بثقله ذهباً ، فقالَ الأصمعي :
إنني يامولاي قد ورثتُ من أبي لوحَ رخام فنقشتُ
عليه قصيدتي ، وهوعلى ظهرِ الجمل ويحتاج إلى
أربعٌ من جنودكَ لحمله ! فاإندهش الخليفة ولكنه قبل
أن يقولَ شيئاً قالَ لهُ الأصمعي : أظنّكَ يامولاي
لم تشترط من قبل على ماذا يجب أن تكتبْ القصيدة
فأمرَّ الخليفة القائم على بيت المال أن يُعطي الأصمعي
حقَّهُ ، فقالَ له : ولكن يامولاي إذأ أعطيته هذا فسوف
تفرغ خزينة بيت المال ! فماذا سنعطي للفقراء
والمحتاجين ؟ وكيفَ ستسير الأوضاع ؟و.....وأ .
وهُنا تتدخّل الأصمعي وقالْ : إنني يامولاي مُستعدٌّ
أن أتنازل عن حقي ولكن بشرط ؟ فقال لهُ الخليفة:
وما هو شرطكَ ياأصمعي ؟ قالَ : شرطيَ ياأمير
المؤمنين هو أن تنصف الشعراء وتعطيهم مايستحقون
ولاتبخل عليهم ! فقال : لقد قبلتُ الشرط . !
لم تكن غايتي أبداً من سرد هذه القصَّة التي أنا واثقٌ
قد قرأها الكثيرون مسبقاً أو سَمِعوا بها ، سوى أن
أصلْ من خلالها بمقارنة سريعة بينَ ما جرى للشعراء
في الماضي مع أبو جعفر المنصور ، وما يجري
اليوم مع شعراء العصر ! وأنا برأيِّ أنَ لافرقَ بما
جرى ، وما يجري .! فأبو جعفر المنصور كانَ
حريصاً على بيت المالْ ، ولا يُريد أن يفرّط به
خصوصاً للشعراء ، لهذا كانَ قد إبتدعَ تلكَ الحيلة .
ويظهر أن غالبية الناس اليوم حريصون على
بيت المال ، ولا يُريدون أن يفرّطوا به خصوصاً
للشعراء ، فهذا الشاعر المسكين الذي يبذلْ قصارة
جهدهُ ، ويضع عصارة أفكارهُ ، ليُخرج كتاباً
بعدَ جهدٍ جهيد ، ويفرح بهِ كفرحة الأم بمولودها
ويأتي ليقدّمه للمجتمع ، وكلّهُ أملاً وثقة أن يلقى
إعجاب وإقبال الناس ، أوحتى كلمة شكر وثناء.
يصطدم بالواقع المرير ، عندما يرى الجمود
وعدم الإهتمام واللامبالات ، فيشعر وكأنّه
في وادٍ ، وهم في وادٍ آخر ، لا بلْ في بعض
الأحيان يُنعتْ هذا الشاعر بالجنون ، أو
بالخروج عن المألوف ( ولو علِموا بأن مرتبة
الشعراء تأتي الثانية بعد الفلاسفة ) لما فعلوا
ذلكْ ، ولكن من أين لهم ليعلمون ، لطالما
هم في عالم والشاعر في عالمٍ آخر ، هم
في عالم الماديَّات والشاعر قد حلَّقَ بعيداً
عن هذا العالم ، طالما هدفهم الوحيد هو السعي
وراء المال والغوص في كنوزهِ ، وهو قد
غاص بأعماق الكلمة وأبحرَ في محيطاتها
نعم هذا الشاعر التعيسْ الذي برغم مجهودهُ
الفكري والمعنوي ، قد يكلِّفهُ هذا الكتاب
المبلغ الغير مُستهانٍ به ، في الحال الذي
قد يكون هوَ بغاية الحاجة إليه ،لكنه يُكابد
من أجل خدمة العلم والإنسانيّة ، من أجلِ
أن يحترق هو ليُسعدْ الآخرين ، فعندما
لايلقى إقبالٌ من قِبلِهمْ ، يضطر للنزول
إليهم بنفسه ، ليعرض عليهم( بضاعتهُ)
عصارة جهدهُ ، فيجاملهم ويستلطفهم
ويتحايل عليهم لتصريف ما إستطاع
من هذه البضاعة ، فالكثيرين منهم يقدّمون
الحجج والأعذار ، فهذا ليسَ عندهُ مجال
للقراءة ، وهذا يقول سأشتريه لاحقاً ، ولا
يفعل ، وآخرٌ يحسبها بينه وبين نفسه ويقول:
ماذا سأفعل بالكتاب ، ولو إبتعتُ ورقة يانصيب
بهذا المبلغ ربّما ربحتُ ، وآخرٌ يقول أيضاً
بينه وبين نفسه : سوف أشتري بهذا المبلغ
( كروز دخّان ) يكفيني أسبوعاً على الأقل !
وهلمّا جرى من الحجج والأعذار والبدائل
تهرُّباً من إقتناء الكتاب ، جميعهم حريصون
على بيت المالْ ، القلّة القليلة فقط التي تفرح
وتبتهج وتشجِّع وتقتني . نحنُ اليوم في عصر
أبو جعفر المنصورالثاني ، فالأغلبيّة صارت
أبو جعفر المنصور، ولكن أينَ لنا من حضور
الأصمعي اليوم لنجدة الشعراء ! ليتحايل
على هؤلاء الحريصون على بيت المال
ويأخذ بحقهم ؟!
أو هل يجب على الشعراء ذاتهم أن يتحولوا
إلى أصمعيّاً ثانٍ ويخاطبوا الناس بنفس
الأسلوب كي تفتح لهم طاقة الفرج ؟!
أو ربمّا يُحوّلوا قصائدهم كلها إلى قصيدة
واحدة معقَّدة وصعبة وسطحيّة وساذجة
كقصيدة :
( صوتُ صفيرِ البلبلِ )
والسؤال يبقى مطروحاً وقابل للنقاش !!!
فريد توما مراد
كما تفرح الأم بمولودها الجديد
هكذا يفرح الشاعر بمولوده الجديد أيضاً
وكما تهفو الأم على إبنها فترعاهُ وتهبهُ الحب والحنان
وترى فيه مستقبل حياتها وسعادتها
هكذا الشاعر أيضاً يهفو على مولوده ويعطيه كل الحب
والحنان ، ويرى فيه مستقبل حياته وسعادته
الأم والشاعر كلاهما واحد ، يملكان نفس المشاعر
والأحاسيس تجاه مولودهم ، والفرق بين تلكَ وذاكْ
هو مدّت الحمل ! فتكون عند الأم تقريباً محددة
أما عند الكاتب فهي غير محددة ، قد تكون أيام أو أشهر أو سنين !.
في الماضي البعيد كانت القبيلة والعشيرة تفتخر
بشعرائها ، كان للشاعر مكانة كبيرة ، ومنزلة رفيعة
ويقال عندما كان أحّدهم يمر بجانب قرية ما ، كان
أهلها يسرعون ويهرعون للقاءهذا الشاعر ، وكانوا
يقدمون إليه الهدايا ، ويتحايلون عليه كي يُعرّج
ويكون ضيفهم ، لا بل في بعض الأحيان كانوا
يتمنوا أن يصاهرهم ويتكرم ويأخذ إحدى بناتهم.
لم تكن مكانة الشعراء فقط عند العوام ، بل عند
الأمراء والسلاطين والملوك والخلفاء.....أيضاً
وكانوا يتفاخرون ويتسابقون بإكرامهم وخلع الهدايا
عليهم من المال والذهب والفضّة ، خصوصاً في
قصائد المدح لهم ، والقذح لأعدائهم .
يُقالْ أن الخليفة أبي جعفر المنصور كان حريصاً
جدّاً على بيت المال ، فلا يُكرم الشعراء بحسب
العادة المتّبعة وكما يُليق بهم ، وكان قد أتّخذ حيلة
يُجريها عليهم ، فكان يشترط على الشاعر قبل أن
يقول قصيدتهُ ، إذا لم يكن قد سمعها قبل هذه المرّة
فسوف يعطيهِ ذهباً بمقدار وزن ما كُتبت عليه
القصيدة ، أمّا إذا سمعها هو أو أحّداً غيره من
قبل فلا يأخذ شيئاً ! وُيقال أن الخليفة كان يحفظ
القصيدة من أول مرّة ، وعنده غلاماً يحفظها من
ثاني مرّة ، وجارية تحفظها من ثالث مرّة ، فعندما
يقول الشاعر قصيدته وينتهي ، يقول له الخليفة :
هذه قد سمعتها سابقاً ، ويبدأ بإلقائها عليه ، وعندما
ينتهي يقول: إذا أردّتَ أن تتأكد أكثر فلديَّ غلام
وجارية قد سمِعاها أيضاً ، (ويكونان قد إختبأَ
خلف الستارة وسمِعا كل شيء ) فَيأمر بإحضارهم
فيقولان القصيدة كما هي ، فيعود الشاعر المسكين
خائباً حزيناً .
كان الشعراء جالسون وعلامات الكلل والملل
بادية عليهم ، عندما دخل عليهم الشاعر الأصمعي
ورآهم هكذا فقال: مابكم ؟ فأخبروه بقصتهم مع الخليفة
وهم في يأسٍ شديد ، و قالوا: الأغرب ما في الأمر إننا
نكتب القصيدة في المساء ، ونذهب في الصباح لنلاقي
القصيدة قد سُرقت وقيلت من قبل .!
فعلِمَ الأصمعي أن في الأمر حيلة ، وكان ذكيَّاً جدّا.ً
بعد أيام قلائل طلب الأصمعي أن يؤذن له بالدخول
على الخليفة ليلقي عليه قصيدته ، فأُذن له ، فدخل
فقال له الخليفة : أتعرف الشروط ياأصمعي ؟
فقال : نعم أعرفها جيّداً يامولاي .
فقال له الخليفة : هاتْ إذاً إسمعنا مالديك .
فقال الأصمعي : قصيدتي يامولاي هي بعنوان
( صوتُ صفير البلبلِ )
فقال الخليفة بينه وبين نفسه لابدَّ أنها سهلة وهذا واضحٌ
من مطلعها .
فقال الأصمعي :
صوتُ صفير البلبلِ
هيَّجَ قلبي الثملِ
الماءُ والزهرُ معاً
مع زهر لحظِ المقلِ
وأنتَ ياسيدَ لي
وسيدي ومولى لي
فكم فكم تيّمُ لي
غزيّلٌ عُقيقلي
قطفتهُ من وجنة
من لثمِ وردِ الخجلِ
فقالَ: لالالالالا
وقد غدا مُهرولِ
والخودُ مالت طرباً
من فعلِ هذا الرجلِ
فولولت وولولتْ
فلي ولي ياويلا ليْ
فقلتُ لاتولولي
وبيّني اللؤلؤ ليْ
قالت له حينا كذا
أنهض وجِد بالمُقلِ
وفتيةٍ سقوا نني
قهوةٌ كالعسلَ لي
شممتها بأنفي
أزكى منَ القرنفلِ
في وسطِ بستانٍ حلي
بالزهرِ والسرور لي
والعودُ دنْ دنْ دنا لي
والطبلُ طبْ طبَ لي
طب طبطب طب طب
طبطب طب طابَ لي
والسقفُ سق سقَ لي
والرقصُ قد طابَ لي
شَوى شتوى وشاه شو
على ورق سفرجلِ
وغرّد القمري يصيح
مَللٌ في مللِ
ولو تراني راكباً
على حمارٌ أهزلِ
يمشي على ثلاثةٍ
كمشيةَ العرنجلي
والناسُ ترجم جملِ
في السوقِ بالقلقللي
والكلُ كعكع كعي كع
خلفي ومن حويللي
لكن مشيتُ هارباً
من خشيتِ العقنقلي
إلى لقاءِ ملكٍ
معظّمٍ مُبجلِ
يأمر لي بخلعةٍ
حمراءُ كالدم دَملي
أجرُ فيها ماشياً
مُبغدداً للذيلِ
أنا الأديب الألمعي
من حي أرض الموصلِ
نظمتُ قطعاً زُخرفت
يعجزُ عنها الأدبلي
أقولُ في مطلعها
صوتُ صفير البُلبُلِ .
عندما إنتهى الأصمعي من إلقاء قصيدتهُ ، وقفَ الخليفة
في حيرة ووضع يده على ذقنه وأخذ يصفن ، لأنه لم
يحفظ منها شيئاً سوى مطلعها فقط ، وهو قد يحتاج لأيّام
عديدة لكي يستطيع أن يحفظ الطبطبات والكعكعات
المذكورة فيها ، فقال: إندهوا ليّ على الغلام والجارية
فلمّا حضروا بين يديه قالَ للغلام : أسمِعتَ من قبل
قصيدة مطلعها صوتُ صفير البلبلِ ؟ فقال الغلام :
صوتُ صفير البلبل هيّج قلبي ال......ثمَّ بدأ يتلعثم
في الكلام ، فقالَ لهُ الخليفة : إخرس ! قبَّحَ الله وجهك
وأنتِ أيّتها الجارية هل سمعتيها من قبل ؟ فقالت :
أبداً يامولاي ! فقال: إغربا من أمام وجهي .
ثمَّ قال : هات ياأصمعي وأعطينا ماكتبتَ عليهِ
قصيدتكَ لنزنْ لكَ بثقله ذهباً ، فقالَ الأصمعي :
إنني يامولاي قد ورثتُ من أبي لوحَ رخام فنقشتُ
عليه قصيدتي ، وهوعلى ظهرِ الجمل ويحتاج إلى
أربعٌ من جنودكَ لحمله ! فاإندهش الخليفة ولكنه قبل
أن يقولَ شيئاً قالَ لهُ الأصمعي : أظنّكَ يامولاي
لم تشترط من قبل على ماذا يجب أن تكتبْ القصيدة
فأمرَّ الخليفة القائم على بيت المال أن يُعطي الأصمعي
حقَّهُ ، فقالَ له : ولكن يامولاي إذأ أعطيته هذا فسوف
تفرغ خزينة بيت المال ! فماذا سنعطي للفقراء
والمحتاجين ؟ وكيفَ ستسير الأوضاع ؟و.....وأ .
وهُنا تتدخّل الأصمعي وقالْ : إنني يامولاي مُستعدٌّ
أن أتنازل عن حقي ولكن بشرط ؟ فقال لهُ الخليفة:
وما هو شرطكَ ياأصمعي ؟ قالَ : شرطيَ ياأمير
المؤمنين هو أن تنصف الشعراء وتعطيهم مايستحقون
ولاتبخل عليهم ! فقال : لقد قبلتُ الشرط . !
لم تكن غايتي أبداً من سرد هذه القصَّة التي أنا واثقٌ
قد قرأها الكثيرون مسبقاً أو سَمِعوا بها ، سوى أن
أصلْ من خلالها بمقارنة سريعة بينَ ما جرى للشعراء
في الماضي مع أبو جعفر المنصور ، وما يجري
اليوم مع شعراء العصر ! وأنا برأيِّ أنَ لافرقَ بما
جرى ، وما يجري .! فأبو جعفر المنصور كانَ
حريصاً على بيت المالْ ، ولا يُريد أن يفرّط به
خصوصاً للشعراء ، لهذا كانَ قد إبتدعَ تلكَ الحيلة .
ويظهر أن غالبية الناس اليوم حريصون على
بيت المال ، ولا يُريدون أن يفرّطوا به خصوصاً
للشعراء ، فهذا الشاعر المسكين الذي يبذلْ قصارة
جهدهُ ، ويضع عصارة أفكارهُ ، ليُخرج كتاباً
بعدَ جهدٍ جهيد ، ويفرح بهِ كفرحة الأم بمولودها
ويأتي ليقدّمه للمجتمع ، وكلّهُ أملاً وثقة أن يلقى
إعجاب وإقبال الناس ، أوحتى كلمة شكر وثناء.
يصطدم بالواقع المرير ، عندما يرى الجمود
وعدم الإهتمام واللامبالات ، فيشعر وكأنّه
في وادٍ ، وهم في وادٍ آخر ، لا بلْ في بعض
الأحيان يُنعتْ هذا الشاعر بالجنون ، أو
بالخروج عن المألوف ( ولو علِموا بأن مرتبة
الشعراء تأتي الثانية بعد الفلاسفة ) لما فعلوا
ذلكْ ، ولكن من أين لهم ليعلمون ، لطالما
هم في عالم والشاعر في عالمٍ آخر ، هم
في عالم الماديَّات والشاعر قد حلَّقَ بعيداً
عن هذا العالم ، طالما هدفهم الوحيد هو السعي
وراء المال والغوص في كنوزهِ ، وهو قد
غاص بأعماق الكلمة وأبحرَ في محيطاتها
نعم هذا الشاعر التعيسْ الذي برغم مجهودهُ
الفكري والمعنوي ، قد يكلِّفهُ هذا الكتاب
المبلغ الغير مُستهانٍ به ، في الحال الذي
قد يكون هوَ بغاية الحاجة إليه ،لكنه يُكابد
من أجل خدمة العلم والإنسانيّة ، من أجلِ
أن يحترق هو ليُسعدْ الآخرين ، فعندما
لايلقى إقبالٌ من قِبلِهمْ ، يضطر للنزول
إليهم بنفسه ، ليعرض عليهم( بضاعتهُ)
عصارة جهدهُ ، فيجاملهم ويستلطفهم
ويتحايل عليهم لتصريف ما إستطاع
من هذه البضاعة ، فالكثيرين منهم يقدّمون
الحجج والأعذار ، فهذا ليسَ عندهُ مجال
للقراءة ، وهذا يقول سأشتريه لاحقاً ، ولا
يفعل ، وآخرٌ يحسبها بينه وبين نفسه ويقول:
ماذا سأفعل بالكتاب ، ولو إبتعتُ ورقة يانصيب
بهذا المبلغ ربّما ربحتُ ، وآخرٌ يقول أيضاً
بينه وبين نفسه : سوف أشتري بهذا المبلغ
( كروز دخّان ) يكفيني أسبوعاً على الأقل !
وهلمّا جرى من الحجج والأعذار والبدائل
تهرُّباً من إقتناء الكتاب ، جميعهم حريصون
على بيت المالْ ، القلّة القليلة فقط التي تفرح
وتبتهج وتشجِّع وتقتني . نحنُ اليوم في عصر
أبو جعفر المنصورالثاني ، فالأغلبيّة صارت
أبو جعفر المنصور، ولكن أينَ لنا من حضور
الأصمعي اليوم لنجدة الشعراء ! ليتحايل
على هؤلاء الحريصون على بيت المال
ويأخذ بحقهم ؟!
أو هل يجب على الشعراء ذاتهم أن يتحولوا
إلى أصمعيّاً ثانٍ ويخاطبوا الناس بنفس
الأسلوب كي تفتح لهم طاقة الفرج ؟!
أو ربمّا يُحوّلوا قصائدهم كلها إلى قصيدة
واحدة معقَّدة وصعبة وسطحيّة وساذجة
كقصيدة :
( صوتُ صفيرِ البلبلِ )
والسؤال يبقى مطروحاً وقابل للنقاش !!!
فريد توما مراد