الدنيا كما كُنا نراها . بقلم :فريد توما مراد
مرسل: الخميس ديسمبر 13, 2012 11:10 pm
الدنيا كما كُنّا نراها
لم يكن شيئاً ليقطع علينا أحياناً نومة الظهيرة الطيّبة
سوى حرارة المكان الذي كان لا يُطاقْ ولايُحتمل
في بعض الأحيان ، أو صوت ( الزمّور ) المنبعث
من إحدى سيارات الركَّاب ، الذي كانَ ينطلق من أول
عبورها شارعنا ، ولغاية وصولها إلى باب المنزل
حيثُ ينتظرها هُناكَ الراكب ، وأحياناً يكون أكثر من
واحد ، ليستقلّوها ولتتابع بعدها المسير إلى مكانٍ آخر .
كانَ شارعنا العريض يبدأ من مدرسة الأرمن ، وينتهي
بأوَّل بيت من مدخل حارة ( السيمالكهَ ) الحديثة العهد
والقليلة البيوت ، وأحتمال كبير من هُنا جاءتها هذه
التسمية ( سيهْ مالكهَ ) أي ( ثلاث بيوت ) باللغة الكرديّه.
بعدَ هذه الحارة كانت تتشرّع الحقول والكروم والبساتين
الجميلة الخلاَّبة ، لينبعث منها الهواء النقي العليل فيُخيّلْ
إليكَ وأنتَ تعبرها وكأنكَ في إحدى جنّات عدن الخياليّة .
كانت العادة وقتذاك ، عندما يقرر الشخص السفر إلى
القامشلي ، يتوجَّب عليه أن يذهبْ إلى كَراج السيّارات
أو يبعث من ينوب عنهُ ، للتسجيل وحجز المقاعد من
ثمَّ يعود إلى البيت وينتظر ، لأنّ الهواتف وقتذاك لم تكن قد
غزت البيوت ، فقلّة قليلة من الناس فقط كانت تمتلكها ،
وغالباً كانت من الطبقة الغنيّة ، وعندما كانَ يكتمل عدد
الركاب في الكراج ، الذي من المفروض أن يكون ثمانية
إلاَّ أنه كان يفوق الأربعة عشر في أغلب الأحيان ، بعدها
كانَ يتّكل السائق على الله ويأتي ليأخذ بقية الركاب من
البيوت ، حيثُ ينتظرهُ الذينَ كانوا قد حجزوا مقاعدهم مسبقاً .
في تلكَ الأيام ، كنَّا أنا ومجموعة من الأطفال المتبرعمة
حديثاً في تلكَ الحارة المأهولة بالسكان على مختلف
أعمارهم ، أمَّا بالنسبة لنا أبناء الجيل الواحد ، وأقصد
الذين جئنا إلى هذه الحياة في نفس السنة ، كانَ عددنا
كبيراً، ففي تلكَ الأشهر من سنة 1957 لم تنجب الأمهات
في حارتنا سوى الذكور ، فأكثرَ من 12 طفلاً ذكراً
رأوا النور في ذلكَ العام،أمَّا حظ البنات فكان قليلاً جدَّاً.
أجل عندما كنا لا نزال براعماً متفتَّحة حديثاً على دربِ
الحياة ، كانت الدنيا كما كنا نراها بأعيننا الطفولية ، وكنا
نظن بأن الذي نراهُ الآن سوف يبقى كما هو ، ونحنُ سنبقى
كما نحنُ عليه ، فذاكَ العجوز الذي يتّكأ على عصاه
ويسير في الشارع ، سيبقى كما هو ، وتلكَ النسّوة اللواتي
يجلسنَ كل يوم أمام باب الدار ويتحدثنَ ويقهقهنَ ويشربنَ
القهوة ، ويقرئنَ الفنجان ، هكذا خُلقنَ ، وهكذا سيَظلنَ ،
والخالة مريم ستبقى الخالة مريم طول الأبد ، والعم بهنان
سيبقى العم بهنان إلى الأبد ، وأبونا القس الذي كنا كلّما
رأيناه قادماً ، نركض أمامهُ ، لنقبل يده ، فيباركنا ويتكرّم
علينا بحبَّة من السكاكر التي كانت جيوبهُ لا تخلو منها أبداً،
سيبقى كما هو ، وسنبقى نركض أمامهُ ونقبّل يدهُ ، ونأخذ
منهُ السكاكر . كانت الدنيا صغيرة جدّاً بالنسبة لنا ، على
مقياس صغرِ عقولنا ، كانت ديريك في منظارنا الطفولي
هي بداية العالم ، والقامشلي نهايتهُ ، والطفل الذي كان
قد شاهدَ القامشلي مرّة برفقة والديه أو أحّد أقاربه ،
كان يتفاخر ويتباهى دائماً أمام رفاقه الذين لم تُتاح لهم
الفرصة ليشاهدوها ، وكان عندما يصفها لهم ، يبالغ كثيراً
في الوصف ، بحسب ما يُملي عليه فكرهُ الطفولي ، كل
ذلك من باب التعالي والتفاخر بما أمكنَ أن يراهُ هو ، ولم
يتمكنوا هم من رؤياهُ ، كل هذا كان يحدث معنا كأطفال
لانعرف من الدنيا غير ديريك عالمنا الوحيد
والقامشلي العالم الآخر. قبلَ أن تتفتح أذهاننا
تدريجيّاً لنعلم بعدها أن الحسكة هي نهاية العالم ،
من ثمَّ حلب ، والشّام ، وأخيراً الكون الفسيح ،
والشيء الذي كانَ يزيدنا أعتقاداً بذلك ، هو عندما كنا
نرى الذين يسافرون إلى القامشلي ، كيفَ كانوا يوَدَّعونْ
من قبل أهاليهم وأصحابهم ، فعندما كانت تطلق سيَّارة
الركاب الزمّور ، معلنة بقدومها ، كان الجميع يخرجون
أمام باب الدار بمن فيهم المسافرون ، وهناكَ كان يبدأ
العناق الطويل ، والقبلات الحارّة ، وأحياناً كثيرة كانت
الدموع تسبق الكلام ، ناهيكَ عن الوصايا التي كانت
تنهال على المسافر المسكين ، والسلامات المرسلة
معهُ للأهل والأقرباء في القامشلي (الطرف الآخر من
العالم ) ، وكانَ في كثير من الأحيان يشتركْ أغلب
الحي في ملحمة الوداع ، فهذا يوصي ويقول : أمانة
سلم على بيت أبن عمي ، وقولْ لهم أننا مشتاقون إليهم
كثيراً ، ونتمنّى رؤيتهم ، لكن مشقة الطريق ، وَبُعدْ
المسافة ، هوالسبب العائق ، وتلكَ تقول : إذا رأيتَ
أختي وزوجها ، طمِّنهم بأننا بخير ، ولا ينقصنا شيء
سوى رؤياهم . وهكذا حتى يتضايق الركاب الجالسين
بالسيارة التي ترتفع الحرارة بداخلها إلى أكثر من
40 درجة مئويَّة ، ناهيكَ عن رائحة العرق المهدور
ودخان السجائر الذي كانَ يحجبْ الرؤية بين المسافرين
والمودّعين ، حتى يصرخ السائق بأعلى صوتهِ ويقول :
( خلصونا بقا ، وخلونا نتيسَّر ! ) .
كانت أيادي المودّعين تبقى ملوِّحة حتى تختفي السيارة
كليَّاً عن الأنظار ، وكما كانتْ حفلة الوداعْ ، هكذا
كانتْ حفلة الأستقبال أيضاً ، ولكن ليسَ بدموع الحزن
والزعل ، بل بدموع البهجة والفرح . هكذا كانت رحلة
الذهاب والعودة من ديريك إلى القامشلي ، وبالعكس .
برغم أننا كنّا صغار ، وبرغم حجم إدراكنا الصغير
إلاَّ أننا لبعض الأمور كنا مُتفتحين ، فمثلاً كنا نعرف
سيارة الركاب قبل أن نراها بمجرّد سماعنا لصوت
زمّورها ، فكنا نقول : إنها سيّارة (فلان ) أو ( فلان ) لأنَّ
كل واحدة منها كانَ لها نغمة خاصة تختلف عن الأخرى
وكنا أحياناً نشترط على هذا الشيء ، وغالباً ما كان الشرط
مجرّد ضحكات أستخفاف وأستعياب على من يكون قد
أخطأ ، الأمر الذي كانَ يؤدّي في أحياناً كثيرة لنشوب
معركة طفوليّة بيننا ، أو بينَ الأمهاتْ ، هذا إذا بكى الطفل
المُعتدى عليه وأسرعَ ليُخبِر أمَّهُ ،عندها كانَ يبدأ الهجوم
وتشتعل الحرب ، وتتعالى الأصوات والإتهاماتْ ( والحق
يجب أن يُقالْ ) فأغلب المشاجرات التي كانت تقوم بين
النِسوة في حارتنا ، كانَ سببها الأطفال ، ولكن الحمد لله
فالشمس كانت لا تغيب حتى تهدأ النفوس ، وتصفح القلوب .
صحيح في حارتنا كانت هُناكَ بعض النسوة تتصف بالقوّة
واللسان الحاد ، ولكن كلَّهنَّ كُنا طيبات ، وكلَّهنَّ كُنا حنونات
وكلّهن بالنسبة لنا كنَّ أمهات .
ذكريات طفوليَّة كثيرة لايمحوها الزمن ، ليَّ في ذاكَ الشارع
مع رفاق طفولتي الباقون منهم والراحلون ، فمنهم من ودّع
هذه الحياة وهو في مقتبل العمر ، ومنهم من غادرها وهو في
ريعان الشباب لم يُكتب له النصيب كي يتزوّج وينجب أطفالاً
ويذوق طعم الأبوّة وحلاوة الأطفال والأحفاد ، ومنهم من غادرها
وهو أبّاً وزوجاً ولكن لن تكتمل سعادته معهم ، أما الباقون أطالَ
الله في أعمارهم أينما وجدوا على سطح هذا الكوكب الكبير ولهم
منّي أجمل سلام ومحبّة .. نعم هي بعض الذكريات الطفوليّة التي
أبقيتها هُناك ورحلتُ ! ولكي لا أطيل عليكم الكلام ، فتزهقون
منّي ومن ذكريات حارتي وشارعنا الجميل ، أكتفي بهذا الحد ،
وأستودعكم بأمان الله
على أمل أن ألتقي بكم مجدّداً .
فريد توما مراد
ستوكهولم – السويد
13-12-2012
[/size]لم يكن شيئاً ليقطع علينا أحياناً نومة الظهيرة الطيّبة
سوى حرارة المكان الذي كان لا يُطاقْ ولايُحتمل
في بعض الأحيان ، أو صوت ( الزمّور ) المنبعث
من إحدى سيارات الركَّاب ، الذي كانَ ينطلق من أول
عبورها شارعنا ، ولغاية وصولها إلى باب المنزل
حيثُ ينتظرها هُناكَ الراكب ، وأحياناً يكون أكثر من
واحد ، ليستقلّوها ولتتابع بعدها المسير إلى مكانٍ آخر .
كانَ شارعنا العريض يبدأ من مدرسة الأرمن ، وينتهي
بأوَّل بيت من مدخل حارة ( السيمالكهَ ) الحديثة العهد
والقليلة البيوت ، وأحتمال كبير من هُنا جاءتها هذه
التسمية ( سيهْ مالكهَ ) أي ( ثلاث بيوت ) باللغة الكرديّه.
بعدَ هذه الحارة كانت تتشرّع الحقول والكروم والبساتين
الجميلة الخلاَّبة ، لينبعث منها الهواء النقي العليل فيُخيّلْ
إليكَ وأنتَ تعبرها وكأنكَ في إحدى جنّات عدن الخياليّة .
كانت العادة وقتذاك ، عندما يقرر الشخص السفر إلى
القامشلي ، يتوجَّب عليه أن يذهبْ إلى كَراج السيّارات
أو يبعث من ينوب عنهُ ، للتسجيل وحجز المقاعد من
ثمَّ يعود إلى البيت وينتظر ، لأنّ الهواتف وقتذاك لم تكن قد
غزت البيوت ، فقلّة قليلة من الناس فقط كانت تمتلكها ،
وغالباً كانت من الطبقة الغنيّة ، وعندما كانَ يكتمل عدد
الركاب في الكراج ، الذي من المفروض أن يكون ثمانية
إلاَّ أنه كان يفوق الأربعة عشر في أغلب الأحيان ، بعدها
كانَ يتّكل السائق على الله ويأتي ليأخذ بقية الركاب من
البيوت ، حيثُ ينتظرهُ الذينَ كانوا قد حجزوا مقاعدهم مسبقاً .
في تلكَ الأيام ، كنَّا أنا ومجموعة من الأطفال المتبرعمة
حديثاً في تلكَ الحارة المأهولة بالسكان على مختلف
أعمارهم ، أمَّا بالنسبة لنا أبناء الجيل الواحد ، وأقصد
الذين جئنا إلى هذه الحياة في نفس السنة ، كانَ عددنا
كبيراً، ففي تلكَ الأشهر من سنة 1957 لم تنجب الأمهات
في حارتنا سوى الذكور ، فأكثرَ من 12 طفلاً ذكراً
رأوا النور في ذلكَ العام،أمَّا حظ البنات فكان قليلاً جدَّاً.
أجل عندما كنا لا نزال براعماً متفتَّحة حديثاً على دربِ
الحياة ، كانت الدنيا كما كنا نراها بأعيننا الطفولية ، وكنا
نظن بأن الذي نراهُ الآن سوف يبقى كما هو ، ونحنُ سنبقى
كما نحنُ عليه ، فذاكَ العجوز الذي يتّكأ على عصاه
ويسير في الشارع ، سيبقى كما هو ، وتلكَ النسّوة اللواتي
يجلسنَ كل يوم أمام باب الدار ويتحدثنَ ويقهقهنَ ويشربنَ
القهوة ، ويقرئنَ الفنجان ، هكذا خُلقنَ ، وهكذا سيَظلنَ ،
والخالة مريم ستبقى الخالة مريم طول الأبد ، والعم بهنان
سيبقى العم بهنان إلى الأبد ، وأبونا القس الذي كنا كلّما
رأيناه قادماً ، نركض أمامهُ ، لنقبل يده ، فيباركنا ويتكرّم
علينا بحبَّة من السكاكر التي كانت جيوبهُ لا تخلو منها أبداً،
سيبقى كما هو ، وسنبقى نركض أمامهُ ونقبّل يدهُ ، ونأخذ
منهُ السكاكر . كانت الدنيا صغيرة جدّاً بالنسبة لنا ، على
مقياس صغرِ عقولنا ، كانت ديريك في منظارنا الطفولي
هي بداية العالم ، والقامشلي نهايتهُ ، والطفل الذي كان
قد شاهدَ القامشلي مرّة برفقة والديه أو أحّد أقاربه ،
كان يتفاخر ويتباهى دائماً أمام رفاقه الذين لم تُتاح لهم
الفرصة ليشاهدوها ، وكان عندما يصفها لهم ، يبالغ كثيراً
في الوصف ، بحسب ما يُملي عليه فكرهُ الطفولي ، كل
ذلك من باب التعالي والتفاخر بما أمكنَ أن يراهُ هو ، ولم
يتمكنوا هم من رؤياهُ ، كل هذا كان يحدث معنا كأطفال
لانعرف من الدنيا غير ديريك عالمنا الوحيد
والقامشلي العالم الآخر. قبلَ أن تتفتح أذهاننا
تدريجيّاً لنعلم بعدها أن الحسكة هي نهاية العالم ،
من ثمَّ حلب ، والشّام ، وأخيراً الكون الفسيح ،
والشيء الذي كانَ يزيدنا أعتقاداً بذلك ، هو عندما كنا
نرى الذين يسافرون إلى القامشلي ، كيفَ كانوا يوَدَّعونْ
من قبل أهاليهم وأصحابهم ، فعندما كانت تطلق سيَّارة
الركاب الزمّور ، معلنة بقدومها ، كان الجميع يخرجون
أمام باب الدار بمن فيهم المسافرون ، وهناكَ كان يبدأ
العناق الطويل ، والقبلات الحارّة ، وأحياناً كثيرة كانت
الدموع تسبق الكلام ، ناهيكَ عن الوصايا التي كانت
تنهال على المسافر المسكين ، والسلامات المرسلة
معهُ للأهل والأقرباء في القامشلي (الطرف الآخر من
العالم ) ، وكانَ في كثير من الأحيان يشتركْ أغلب
الحي في ملحمة الوداع ، فهذا يوصي ويقول : أمانة
سلم على بيت أبن عمي ، وقولْ لهم أننا مشتاقون إليهم
كثيراً ، ونتمنّى رؤيتهم ، لكن مشقة الطريق ، وَبُعدْ
المسافة ، هوالسبب العائق ، وتلكَ تقول : إذا رأيتَ
أختي وزوجها ، طمِّنهم بأننا بخير ، ولا ينقصنا شيء
سوى رؤياهم . وهكذا حتى يتضايق الركاب الجالسين
بالسيارة التي ترتفع الحرارة بداخلها إلى أكثر من
40 درجة مئويَّة ، ناهيكَ عن رائحة العرق المهدور
ودخان السجائر الذي كانَ يحجبْ الرؤية بين المسافرين
والمودّعين ، حتى يصرخ السائق بأعلى صوتهِ ويقول :
( خلصونا بقا ، وخلونا نتيسَّر ! ) .
كانت أيادي المودّعين تبقى ملوِّحة حتى تختفي السيارة
كليَّاً عن الأنظار ، وكما كانتْ حفلة الوداعْ ، هكذا
كانتْ حفلة الأستقبال أيضاً ، ولكن ليسَ بدموع الحزن
والزعل ، بل بدموع البهجة والفرح . هكذا كانت رحلة
الذهاب والعودة من ديريك إلى القامشلي ، وبالعكس .
برغم أننا كنّا صغار ، وبرغم حجم إدراكنا الصغير
إلاَّ أننا لبعض الأمور كنا مُتفتحين ، فمثلاً كنا نعرف
سيارة الركاب قبل أن نراها بمجرّد سماعنا لصوت
زمّورها ، فكنا نقول : إنها سيّارة (فلان ) أو ( فلان ) لأنَّ
كل واحدة منها كانَ لها نغمة خاصة تختلف عن الأخرى
وكنا أحياناً نشترط على هذا الشيء ، وغالباً ما كان الشرط
مجرّد ضحكات أستخفاف وأستعياب على من يكون قد
أخطأ ، الأمر الذي كانَ يؤدّي في أحياناً كثيرة لنشوب
معركة طفوليّة بيننا ، أو بينَ الأمهاتْ ، هذا إذا بكى الطفل
المُعتدى عليه وأسرعَ ليُخبِر أمَّهُ ،عندها كانَ يبدأ الهجوم
وتشتعل الحرب ، وتتعالى الأصوات والإتهاماتْ ( والحق
يجب أن يُقالْ ) فأغلب المشاجرات التي كانت تقوم بين
النِسوة في حارتنا ، كانَ سببها الأطفال ، ولكن الحمد لله
فالشمس كانت لا تغيب حتى تهدأ النفوس ، وتصفح القلوب .
صحيح في حارتنا كانت هُناكَ بعض النسوة تتصف بالقوّة
واللسان الحاد ، ولكن كلَّهنَّ كُنا طيبات ، وكلَّهنَّ كُنا حنونات
وكلّهن بالنسبة لنا كنَّ أمهات .
ذكريات طفوليَّة كثيرة لايمحوها الزمن ، ليَّ في ذاكَ الشارع
مع رفاق طفولتي الباقون منهم والراحلون ، فمنهم من ودّع
هذه الحياة وهو في مقتبل العمر ، ومنهم من غادرها وهو في
ريعان الشباب لم يُكتب له النصيب كي يتزوّج وينجب أطفالاً
ويذوق طعم الأبوّة وحلاوة الأطفال والأحفاد ، ومنهم من غادرها
وهو أبّاً وزوجاً ولكن لن تكتمل سعادته معهم ، أما الباقون أطالَ
الله في أعمارهم أينما وجدوا على سطح هذا الكوكب الكبير ولهم
منّي أجمل سلام ومحبّة .. نعم هي بعض الذكريات الطفوليّة التي
أبقيتها هُناك ورحلتُ ! ولكي لا أطيل عليكم الكلام ، فتزهقون
منّي ومن ذكريات حارتي وشارعنا الجميل ، أكتفي بهذا الحد ،
وأستودعكم بأمان الله
على أمل أن ألتقي بكم مجدّداً .
فريد توما مراد
ستوكهولم – السويد
13-12-2012