نصحني صديقي الطبيب . بقلم: فريد توما مراد
مرسل: الثلاثاء فبراير 12, 2013 7:56 pm
نصحني صديقي الطبيب .
لم أكن أبداً مقتنعاً بيني وبين نفسي ، عندما نصحني صديقي
الطبيب قائلاً : حاول أن لاتأكل شيئاً قبل الساعات الأولى
من النوم .. فسوف تضمن نومةً مريحة وهادئة .....!
لكل أنسانٍ طباعه وعاداته المختلفة ......
وأنا من طبعي تعوّدت منذ سنواتٍ عديدة أن أكون شبعاناً
قبل أن أخلد إلى النوم .. وبأمكاني أن أستغني عن وجبة
الفطار والغداء ، معوِّضاً عنهم ببعض السوائل كالشاي والقهوة وقليلاً من
الحلويات .. أو ما شابه ذلك .. إنما وجبة المساء ، لا غنى
عنها ، فهي ضروريّة ومقدّسة عندي .. وإن حدث مصادفة أجبرتُ فيها على النوم وأنا
جائع ، أبقى أتقلب يميناً وشمالاً حتى الصباح ، لا يغفو ليّ جفناً .. ولا يهدأ ليّ بال ..
وإذا أكرمني المولى بقليل من النوم ، فالويلُ ليّ ، لأنّ حتماً ستكون كل أحلامي
مزعجة ومخيفة تلكَ الليلة ... ولهذا تعوّدت أن
أجيب على الذين يلومونني ويحاولون نصيحتي كي أقلع
عن هذه العادة السيئة التي قد تؤدّي بيَّ في النهاية إلى أمور
لا يُحمد لها ..تعوّدت أن أجيبهم مازحاً وأقول :
لا أريد أن أخرج من هذه الحياة وأنا جائع ...!!
لأنني إذا نمتُ لا أعلم سأستيقظ مرّة أخرى ، أم لا...
والعلم دائماً عندَ الله ......
لهذا عندما نصحني صديقي الطبيب هذه النصيحة ، خشيتُ
جدّاً قد أكون لاأستطيع تنفيذها .. لذلك لم أعطيه وعداً قاطعاً
بل قلتُ له سأحاول إنشاء الله .
مرت الأيام وأنستني مشاغل الحياة نصيحة صديقي الطبيب
وبقيتُ على عادتي القديمة ، لا أنام إلاّ وأنا قد خلّصتُ على
وجبتي المسائية المفضلة لدي .... إلى أن جاء يوماً رأيتني فيه
أقف أمام زوجتي وهي تأنبني وتلومني على أزدياد وزني
الذي يعود سببه ( كما في نظرها ) لعدم مزاولة الرياضة ..
والأكل المفرط في الليل .. وربما معها حق في ذلك ..!
لا.. ولِما هذه الربما .. معها حق مائة في المائة ....!
ولكن ما العمل ؟ الرياضة وممكن القيام بها قدر المستطاع ..
ولكن العزول عن وجبة العشاء .. فهذا شبه مستحيل ..
وهنا تذكرت نصيحت صديقي الطبيب ، وراودتني فكرة
اعتبرتها مصيريّة بالنسبة لي ، وقلتُ بيني وبين نفسي..
غداً إنشاء الله سأقوم بالتجربة الأولى ... سأحاول أن أنام
دون عشاء وأتكالي على الله ....
في الصباح ضغطتُ على نفسي وتناولتُ وجبة الفطار التي
كنتُ قد ودعتها منذ سنوات .. حان وقت الغداء فقلتُ لابدّ
أن أتغدى ، على الأقل أستطيع أن أعوض ما سأحرم منه
طوال الليل .. عند العصر ، وقبل المغرب بقليل .. قلتُ
لابدَّ من بعض السندويشات الخفيفة التي حتماً ستساعدني
في رحلتي الشاقة عبر الليل .. فأكلت ثلاثة منها بالمرتديله
والجبن والبندورة والخيار .... وبعض حبات الزيتون الأسود
مع فنجاناً من الشاي الثقيل المفضّل لدي .. فشعرتُ بأنني قد
شبعتُ الكفاية .. فقلت لنفسي : الآن تستطيعي أن تنامي
وتطمئني يانفسي .. وأظن لستِ بحاجة بعد الآن إلى وجبة العشاء .!
قبل ذهابي إلى الفراش ، رأيتُ أن أأخذ حبة مسكِّن ، رغم
أنني كنت لا أشكو من أيّ ألمٍ ، لكن قلتُ عساها تنفعني وتخفف
من مصيبتي المنتظرة ( هكذا كان أحساسي قبل أن أستسلم للنوم )
كيفَ غفوتُ .. ومتى .. لا أعلم ..؟! إنما ماأعلمه في تلكَ اللحظات
كانَ صراعاً عنيفاً بين اليقظة والنوم ...ويظهر أن النوم هو الذي
أنتصرَ في النهاية بعد جهدٍ جهيد ، وبعون الله ، وحبة( الأ لڤيدون ... )
متى أنتهى الصراع بين اليقظة والنوم لا أعلم .. لكن يظهر أنني
أستسلمتُ للنوم في النهاية لأرى نفسي في تلك الصحراء الخاوية..
لم أكن لوحدي هناك .. جموعٌ بشرية غفيرة بأجسادٍ نحيلة وعيون غائرة
تسير كلها بأتجاه واحد .. كنتُ بينهم أسير منهك القوى ، ضعيف
البنية ، قد هدّني وأتعبني المسير الذي يكاد لاينتهي ، ناهيكَ عن الجوع
والعطش اللذان كانا قد أرهقاني ، وأضعفا حركة جسدي..
كنا واحدنا يسأل الآخر .. ماذا حدث ؟ وما هذا التغير المفاجىء
الذي حصل ؟ .. وإلى أين نحنُ ذاهبون ؟.. كنتُ أسمع أصواتاً
ضئيلة قادمة من هنا وهناك .. فمنهم من كان يقول: إنه الجفاف
الذي ألمَّ بنا ، وقضى على محاصيلنا وأرزاقنا ... ومنهم من كان
يقول : الأزدياد البشري الذي تمَّ بسرعة حيثُ ضاقت به الأرض..
ومنهم من كان يقول : الحروب هي التي جلبت إلينا هذه الويلات ..
ومنهم من يقول : الوباء الخبيث ... الوباء الخطير هو من فعل ذلك...
أقوال .. وأقوال كثيرة ومتضاربة كانت تأتي من هنا وهناك ..
وفجأةً جاء صوتاً صارخاً قادماً من بعيد يأمرنا أن نتوقف
عن المسير ويقول : لقد أكتشفتُ السر .. لقد أكتشفتُ السر ..!!!
وصل صاحب الصوت .. فأفسحنا له المكان بيننا .. وأتخذنا
حوله حلقة دائريّة ..وسكتنا جميعنا لكي نعطيه المجال ليتكلم ..
ففتح فاهه وتكلم بصوت هدّه العياء والتعب والجوع والعطش
وقال : ياأحبائي وأخوتي بالإنسانية .. إننا جميعنا نقاسي ونواجه
نفس المصير .. وكما أرى أن مصيرنا هو الهلاك لا محالة
إذا لم نتعاون جميعنا ونكون يداً واحدة .. ونقف سدّاً منيعاً أمام الخطر
القادم .. إن سبب هذا البلاء ليس الجفاف .. ولا أزديادنا البشري
ولا الحروب .. ولا كما يظن كل واحداً منكم .. السبب هم البقرات
العملاقة .. نعم البقرات العملاقة التي تزن كل واحدة منها آلاف
الأطنان .. كل واحدة منها بمثابة جبلاً قائماً في ذاته .. إنها تسير
فاتحة أفواهها الشبيهة بفوهة مغارة كبيرة في بطنِ جبلٍ شامخ ..
إنها تسير وتلتهم كل شيء في طريقها .. تلتهم اليابس والطري
لاينجو منها أحّداً .. إنها أشبه بمخلوقات غريبة وعجيبة ..
تمشي ببطىء وتبتلع كل شيءٍ يصادفها دون شبعاً وأكتفاء ..
والأغرب من ذلك ، إنها تسير ياأخوتي ، وهي ضاحكة وسعيدة ..
بهذا أنهى أخينا بالإنسانية كلامه ......!!!
إذاً مالعمل ؟ ماذا نفعل ؟ وكيف لنا أن ننجوا منها ؟ بدأنا نتساءل.. وأزداد
الصريخ والأحتجاج .. وأزدات البلبلة .. وزاد الأضطراب والصخب..
وهنا صرخ فينا أخينا بالإنسانيّة وقال : يجب أن نسلك هذه الطريق
مشيراً بيده اليمنى .. وأكمل قائلاً : البقرات قادمة إلينا من هذا
الأتجاه .. مشيراً إلى الطرف الآخر ...
بدأنا نمشي ونمشي .. وبدأ التعب والجوع والعطش يزداد
أكثر فأكثر .. والقافلة تتناقص شيئاً فشيئاً .. والموت يحصد
دون توقف .. والطريق لانهاية لها ..وفجأةً ..!!! ياإلهي ..!!
ماههذه الجبال القادمة نحونا .. وماهذه القهقهات والضحكات
الصاخبة الصادرة عنها .. إنها البقرات العملاقة .. إنها قادمة
نحونا .. مالعمل ؟ لا.. فنحنُ هالكون لامحالة ...!!!
دخلت البقرات شواطىء الجموع المحتشدة .. وراحت تلتهم
وتسير .. وهي ضاحكة ..تخور بإنتعاش .. إنها بغاية السعادة ..
كان موقعي تقريباً في وسط الجموع .. وكنت أحاول التعمّق أكثر
للداخل قدر المستطاع .. ولكن أين المفر ؟ فدوري قادم لامحالة ..
وفجأة رأيتني مستلقياً فوق سفح هضبة مكسوّة بالمرج الناعم..
لا ..لا .. إن هذا السفح يتحرك .. إنها ليست هضبة ..إنه لسان
البقرة يجتذبني إلى الداخل .. لا..لا ..أنقذني يارب.. وصرختُ
بكل ماأتاني الله من قوّة .. ضارباً بيداي سفح الهضبة محاولاً
النهوض والفرار والنجاة بنفسي .... ...
أشكر الله كانت زوجتي بعيدة عني تلك اللحظة ، وإلاّ لكانت
تلكَ الضربة من نصيبها ..!
قفزتُ وعلى صرختي قفزت زوجتي ، رسمتُ علامة الصليب
وزوجتي مصرّة أن تعرف ماذا حدث..! لم يكن لديَّ مجال لأخبرها
وأسرد لها التفاصيل .. لأنني شعرتُ وكأنَّ أحشائي تتقطّع من الجوع
لهذا أزحت اللحاف ، وهرعت مسرعاً إلى المطبخ .. فتحتُ ( البرَّاد )
ومددتُ يدي إلى الداخل ..أي شيء ..لايهم ، المهم أن أأكل شيئاً.
إنها علبة مدوّرة .. علبة ( اللآ ڤاچ كيري )جبنة البقرة الضاحكة ..
أيضاً لايهم ، فليس لديَّ وقتاً كافياً للتفكير .. أزحت الغطاء عن
العلبة ، الحمد لله إنها تقريباً كاملة ، لم ينقص منها سوى واحدة ..
لم يكن لديّ المجال لأبحث عن الشريط الأحمر المخصص لفتح
قطعة الجبنة ، لهذا تركت العمل للقواطع من أسناني كي تأخذ هذه
المهمة ، كنتُ أقطع رأس القطعة وأبدأ بعصر الجبنة في فمي عصراً
وهكذا حتى أتيتُ على آخر قطعة منها لأقول بعدها الحمد لله
ورب العالمين ( الله لايترك أحد جوعان..! ) ..
في هذه اللحظة وصلت زوجتي لتطمئن عليَّ .. وفي هذه اللحظة
بالضبط كنتُ أنظر إلى غطاء علبة الجبنة وأتأمّل ضحكة البقرة
الضاحكة عليه ، والأبتسامة تعلو شفتي ، في هذه اللحظة سألتني زوجتي ..مابكَ ؟
علامَ هذه الإبتسامة ؟
قلتُ : لاشيء ..!!
ولكن سبحان الله .. كم الفرق كبير بين ضحكة هذه البقرة ...... وتلكَ البقرات ...!
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد
لم أكن أبداً مقتنعاً بيني وبين نفسي ، عندما نصحني صديقي
الطبيب قائلاً : حاول أن لاتأكل شيئاً قبل الساعات الأولى
من النوم .. فسوف تضمن نومةً مريحة وهادئة .....!
لكل أنسانٍ طباعه وعاداته المختلفة ......
وأنا من طبعي تعوّدت منذ سنواتٍ عديدة أن أكون شبعاناً
قبل أن أخلد إلى النوم .. وبأمكاني أن أستغني عن وجبة
الفطار والغداء ، معوِّضاً عنهم ببعض السوائل كالشاي والقهوة وقليلاً من
الحلويات .. أو ما شابه ذلك .. إنما وجبة المساء ، لا غنى
عنها ، فهي ضروريّة ومقدّسة عندي .. وإن حدث مصادفة أجبرتُ فيها على النوم وأنا
جائع ، أبقى أتقلب يميناً وشمالاً حتى الصباح ، لا يغفو ليّ جفناً .. ولا يهدأ ليّ بال ..
وإذا أكرمني المولى بقليل من النوم ، فالويلُ ليّ ، لأنّ حتماً ستكون كل أحلامي
مزعجة ومخيفة تلكَ الليلة ... ولهذا تعوّدت أن
أجيب على الذين يلومونني ويحاولون نصيحتي كي أقلع
عن هذه العادة السيئة التي قد تؤدّي بيَّ في النهاية إلى أمور
لا يُحمد لها ..تعوّدت أن أجيبهم مازحاً وأقول :
لا أريد أن أخرج من هذه الحياة وأنا جائع ...!!
لأنني إذا نمتُ لا أعلم سأستيقظ مرّة أخرى ، أم لا...
والعلم دائماً عندَ الله ......
لهذا عندما نصحني صديقي الطبيب هذه النصيحة ، خشيتُ
جدّاً قد أكون لاأستطيع تنفيذها .. لذلك لم أعطيه وعداً قاطعاً
بل قلتُ له سأحاول إنشاء الله .
مرت الأيام وأنستني مشاغل الحياة نصيحة صديقي الطبيب
وبقيتُ على عادتي القديمة ، لا أنام إلاّ وأنا قد خلّصتُ على
وجبتي المسائية المفضلة لدي .... إلى أن جاء يوماً رأيتني فيه
أقف أمام زوجتي وهي تأنبني وتلومني على أزدياد وزني
الذي يعود سببه ( كما في نظرها ) لعدم مزاولة الرياضة ..
والأكل المفرط في الليل .. وربما معها حق في ذلك ..!
لا.. ولِما هذه الربما .. معها حق مائة في المائة ....!
ولكن ما العمل ؟ الرياضة وممكن القيام بها قدر المستطاع ..
ولكن العزول عن وجبة العشاء .. فهذا شبه مستحيل ..
وهنا تذكرت نصيحت صديقي الطبيب ، وراودتني فكرة
اعتبرتها مصيريّة بالنسبة لي ، وقلتُ بيني وبين نفسي..
غداً إنشاء الله سأقوم بالتجربة الأولى ... سأحاول أن أنام
دون عشاء وأتكالي على الله ....
في الصباح ضغطتُ على نفسي وتناولتُ وجبة الفطار التي
كنتُ قد ودعتها منذ سنوات .. حان وقت الغداء فقلتُ لابدّ
أن أتغدى ، على الأقل أستطيع أن أعوض ما سأحرم منه
طوال الليل .. عند العصر ، وقبل المغرب بقليل .. قلتُ
لابدَّ من بعض السندويشات الخفيفة التي حتماً ستساعدني
في رحلتي الشاقة عبر الليل .. فأكلت ثلاثة منها بالمرتديله
والجبن والبندورة والخيار .... وبعض حبات الزيتون الأسود
مع فنجاناً من الشاي الثقيل المفضّل لدي .. فشعرتُ بأنني قد
شبعتُ الكفاية .. فقلت لنفسي : الآن تستطيعي أن تنامي
وتطمئني يانفسي .. وأظن لستِ بحاجة بعد الآن إلى وجبة العشاء .!
قبل ذهابي إلى الفراش ، رأيتُ أن أأخذ حبة مسكِّن ، رغم
أنني كنت لا أشكو من أيّ ألمٍ ، لكن قلتُ عساها تنفعني وتخفف
من مصيبتي المنتظرة ( هكذا كان أحساسي قبل أن أستسلم للنوم )
كيفَ غفوتُ .. ومتى .. لا أعلم ..؟! إنما ماأعلمه في تلكَ اللحظات
كانَ صراعاً عنيفاً بين اليقظة والنوم ...ويظهر أن النوم هو الذي
أنتصرَ في النهاية بعد جهدٍ جهيد ، وبعون الله ، وحبة( الأ لڤيدون ... )
متى أنتهى الصراع بين اليقظة والنوم لا أعلم .. لكن يظهر أنني
أستسلمتُ للنوم في النهاية لأرى نفسي في تلك الصحراء الخاوية..
لم أكن لوحدي هناك .. جموعٌ بشرية غفيرة بأجسادٍ نحيلة وعيون غائرة
تسير كلها بأتجاه واحد .. كنتُ بينهم أسير منهك القوى ، ضعيف
البنية ، قد هدّني وأتعبني المسير الذي يكاد لاينتهي ، ناهيكَ عن الجوع
والعطش اللذان كانا قد أرهقاني ، وأضعفا حركة جسدي..
كنا واحدنا يسأل الآخر .. ماذا حدث ؟ وما هذا التغير المفاجىء
الذي حصل ؟ .. وإلى أين نحنُ ذاهبون ؟.. كنتُ أسمع أصواتاً
ضئيلة قادمة من هنا وهناك .. فمنهم من كان يقول: إنه الجفاف
الذي ألمَّ بنا ، وقضى على محاصيلنا وأرزاقنا ... ومنهم من كان
يقول : الأزدياد البشري الذي تمَّ بسرعة حيثُ ضاقت به الأرض..
ومنهم من كان يقول : الحروب هي التي جلبت إلينا هذه الويلات ..
ومنهم من يقول : الوباء الخبيث ... الوباء الخطير هو من فعل ذلك...
أقوال .. وأقوال كثيرة ومتضاربة كانت تأتي من هنا وهناك ..
وفجأةً جاء صوتاً صارخاً قادماً من بعيد يأمرنا أن نتوقف
عن المسير ويقول : لقد أكتشفتُ السر .. لقد أكتشفتُ السر ..!!!
وصل صاحب الصوت .. فأفسحنا له المكان بيننا .. وأتخذنا
حوله حلقة دائريّة ..وسكتنا جميعنا لكي نعطيه المجال ليتكلم ..
ففتح فاهه وتكلم بصوت هدّه العياء والتعب والجوع والعطش
وقال : ياأحبائي وأخوتي بالإنسانية .. إننا جميعنا نقاسي ونواجه
نفس المصير .. وكما أرى أن مصيرنا هو الهلاك لا محالة
إذا لم نتعاون جميعنا ونكون يداً واحدة .. ونقف سدّاً منيعاً أمام الخطر
القادم .. إن سبب هذا البلاء ليس الجفاف .. ولا أزديادنا البشري
ولا الحروب .. ولا كما يظن كل واحداً منكم .. السبب هم البقرات
العملاقة .. نعم البقرات العملاقة التي تزن كل واحدة منها آلاف
الأطنان .. كل واحدة منها بمثابة جبلاً قائماً في ذاته .. إنها تسير
فاتحة أفواهها الشبيهة بفوهة مغارة كبيرة في بطنِ جبلٍ شامخ ..
إنها تسير وتلتهم كل شيء في طريقها .. تلتهم اليابس والطري
لاينجو منها أحّداً .. إنها أشبه بمخلوقات غريبة وعجيبة ..
تمشي ببطىء وتبتلع كل شيءٍ يصادفها دون شبعاً وأكتفاء ..
والأغرب من ذلك ، إنها تسير ياأخوتي ، وهي ضاحكة وسعيدة ..
بهذا أنهى أخينا بالإنسانية كلامه ......!!!
إذاً مالعمل ؟ ماذا نفعل ؟ وكيف لنا أن ننجوا منها ؟ بدأنا نتساءل.. وأزداد
الصريخ والأحتجاج .. وأزدات البلبلة .. وزاد الأضطراب والصخب..
وهنا صرخ فينا أخينا بالإنسانيّة وقال : يجب أن نسلك هذه الطريق
مشيراً بيده اليمنى .. وأكمل قائلاً : البقرات قادمة إلينا من هذا
الأتجاه .. مشيراً إلى الطرف الآخر ...
بدأنا نمشي ونمشي .. وبدأ التعب والجوع والعطش يزداد
أكثر فأكثر .. والقافلة تتناقص شيئاً فشيئاً .. والموت يحصد
دون توقف .. والطريق لانهاية لها ..وفجأةً ..!!! ياإلهي ..!!
ماههذه الجبال القادمة نحونا .. وماهذه القهقهات والضحكات
الصاخبة الصادرة عنها .. إنها البقرات العملاقة .. إنها قادمة
نحونا .. مالعمل ؟ لا.. فنحنُ هالكون لامحالة ...!!!
دخلت البقرات شواطىء الجموع المحتشدة .. وراحت تلتهم
وتسير .. وهي ضاحكة ..تخور بإنتعاش .. إنها بغاية السعادة ..
كان موقعي تقريباً في وسط الجموع .. وكنت أحاول التعمّق أكثر
للداخل قدر المستطاع .. ولكن أين المفر ؟ فدوري قادم لامحالة ..
وفجأة رأيتني مستلقياً فوق سفح هضبة مكسوّة بالمرج الناعم..
لا ..لا .. إن هذا السفح يتحرك .. إنها ليست هضبة ..إنه لسان
البقرة يجتذبني إلى الداخل .. لا..لا ..أنقذني يارب.. وصرختُ
بكل ماأتاني الله من قوّة .. ضارباً بيداي سفح الهضبة محاولاً
النهوض والفرار والنجاة بنفسي .... ...
أشكر الله كانت زوجتي بعيدة عني تلك اللحظة ، وإلاّ لكانت
تلكَ الضربة من نصيبها ..!
قفزتُ وعلى صرختي قفزت زوجتي ، رسمتُ علامة الصليب
وزوجتي مصرّة أن تعرف ماذا حدث..! لم يكن لديَّ مجال لأخبرها
وأسرد لها التفاصيل .. لأنني شعرتُ وكأنَّ أحشائي تتقطّع من الجوع
لهذا أزحت اللحاف ، وهرعت مسرعاً إلى المطبخ .. فتحتُ ( البرَّاد )
ومددتُ يدي إلى الداخل ..أي شيء ..لايهم ، المهم أن أأكل شيئاً.
إنها علبة مدوّرة .. علبة ( اللآ ڤاچ كيري )جبنة البقرة الضاحكة ..
أيضاً لايهم ، فليس لديَّ وقتاً كافياً للتفكير .. أزحت الغطاء عن
العلبة ، الحمد لله إنها تقريباً كاملة ، لم ينقص منها سوى واحدة ..
لم يكن لديّ المجال لأبحث عن الشريط الأحمر المخصص لفتح
قطعة الجبنة ، لهذا تركت العمل للقواطع من أسناني كي تأخذ هذه
المهمة ، كنتُ أقطع رأس القطعة وأبدأ بعصر الجبنة في فمي عصراً
وهكذا حتى أتيتُ على آخر قطعة منها لأقول بعدها الحمد لله
ورب العالمين ( الله لايترك أحد جوعان..! ) ..
في هذه اللحظة وصلت زوجتي لتطمئن عليَّ .. وفي هذه اللحظة
بالضبط كنتُ أنظر إلى غطاء علبة الجبنة وأتأمّل ضحكة البقرة
الضاحكة عليه ، والأبتسامة تعلو شفتي ، في هذه اللحظة سألتني زوجتي ..مابكَ ؟
علامَ هذه الإبتسامة ؟
قلتُ : لاشيء ..!!
ولكن سبحان الله .. كم الفرق كبير بين ضحكة هذه البقرة ...... وتلكَ البقرات ...!
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد