أبي فوق الشجرة . بقلم: فريد توما مراد
مرسل: الأربعاء إبريل 17, 2013 8:40 pm
أبي فوق الشجرة .
ولكن هذه المرّة أنا الذي فوق الشجرة ، وأنا بطل الفيلم الذي
شاهدته في السبعينات من القرن المنصرم ، حيثُ كان يلعب
أدوار البطولة فيه نخبة من المشاهير أمثال عبد الحليم حافظ
وعماد حمدي ، ونادية لطفي ، وميرفت أمين ..وغيرهم من الذين
لا أتذكرهم الآن ..ولكن الشيء الذي أذكره هو بعض الأغاني
التي غنَّاها المطرب عبدالحليم حافظ وقتذاك ، مثل جانا الهوى
جانا ، والهوى هوايا ، ومشيت على الأشواكْ ..وغيرها من
الأغاني التي بقيت محفوظة على مرِّ الزمن والسنين ...!
كان الوقت خريفيّاً .. لم يكن المطر شديد الإنهمار .. إنما رُذاذٌ
خفيف كان يتطاير مع هبوب نسمات الهواء اللطيفة المنعشة ..
في حديقة داري شجرتا تفاح ، وشجرة كرز ، وأخرى شجرة
أجاص ..وهذه الأخيرة كانت التي سأتسلقها لأتمكن من تقليم
أغصانها ، كما نصحوني أصحاب الخير والمعرفة والخبرة..
لم تكن الشجرة عالية القامة ..كان أرتفاع ساقها عن الأرض
حوالي المترين .. رغم ذلك ترددتُ في الصعود ، وكأنَّ صوتاً
من أعماقي صرخ بي : لا ... لا تصعد ..!
كيفَ لا أصعد ؟ وما هو الذي يمنعني عن الصعود ، فالشجرة
ليست عالية ..وهاهو السّلم بجانبي ، سأصعد بعض درجاته
لأكون مباشرة فوق هذه الشجرة الصغيرة ..نعم الصغيرة
قياساً بتلكَ الأشجار التي كنَّا نتسلقها هناكَ في ديريك
أو عندما كنا نذهب إلى القرى لأصطياد العصافير ، حيث كنا
أحياناً كثيرة نتسلق إلى قمَّة الشجرة الباسقة ، للإنقضاض على
فراخ العصافير ، وهي في أعشاشها ..! ( وكلما تذكرتُ الآن
تلكَ المشاهد الوحشيّة التي كنا نقوم بها ضدَّ تلكَ الطيور
المسكينة ، البريئة ، يتملكني شيئاً من الإشمئزاز بالنفس )
أجل كنا في دور الطفولة ، عندما كنا نتسلق تلك الأشجار العالية
دون خوف أو مهابة ، ولازلتُ أذكر شجرة التوت المرتفعة في
حوش بيت جدّي ( يعقوب ساره ) حيث كان يركن تحتها
ذاكَ البئر العميق الغنيّ بمياهه العذبة ، الذي كان يستقبل على
مدار الساعة ، النسوة والصبايا اللواتي كنَّ يملأنَّ جرارهن
بالأهازيج والنكات والحكايات الجميلة ..
لازلتُ أذكر جيّدا كيف كنا أنا وخالي الذي كان يصغرني
ربما سنة واحدة ، أو أقل .. كنا نصعد شجرة التوت مع حلول
المساء ، وبداية عرض الفيلم في سينما ( هتّيهْ ) الصيفيّة
كانت المسافة بين السينما ، وبيت جدي ، تزيد على النصف
كيلو متر ، أو أكثر .. ورغم هذه المسافة ، كنا أنا وخالي
نصعد الشجرة ، لنتفرّج على الفيلم ..! بالطبع كانَ ذلكَ أمراً
مستحيلاً أن ترى الأشخاص والأحداث ، وربما ماكنّا نراهُ
كان مجرّد خيال ، أو تحركات غير واضحة على تلك الشاشة
البيضاء الكبيرة ..! ولكن ماذا أقول ؟ فهي الطفولة ، وشقاوة
الطفولة ، التي كانت تدفعني أحياناً لأقول لخالي : ها إنني
أرى البطل وهو راكباً حصانه ، وهاهي البطلة تقف بجانبه ..
فكان خالي يُحلِّفني ويقول : قول بالمسيح ..! فكنتُ أحلف بطيبة
خاطر وتفاخر وأقول : بالمسيح.. بالمسيح ..! فكانَ يقول : ولكن
لماذا لا أراهم أنا ؟ فكنتُ أقول له ُ : ربما لأنني قد صعدتُ أعلى
منكَ .. فكان يحاول الوصول إلى عندي بين خشخشات الأغصان
وتمايلها ، لينتبه لنا جدي ( رحمه الله ) ويصرخ علينا تلكَ الصرخة
المجلجلة ، التي لاتزال تطنُّ في مسمعي ...!!
نعم هذه بعض ذكرياتي مع خالي التي لاتنتسى ..ولكن هُناكَ ذكرى
ليس فقط لاتنتسى ، بل لايستطيع الدهر إزالتْ أثرها ..ففي إحدى
الأيام ذهبنا كلانا إلى دكان المرحوم ( صليبا صولكر ) وأشترينا
مطاط ، وقمنا بعمل (چطلين ) أو مايسمّى بالنقيّفه التي كنا نصطاد
بها العصافير ..ولكن ليس العصافير فقط ، إنما كل ماكان مُشاعاً
لنا في ذاكَ الوقت ، كالقطط ، والضفادع ، والدجاج ...والخ ، في وقت
لم تكن فيه جمعيَّات الرفق بالحيوان قد ظهرت .. وبعد الأنتهاء من
العمل ، كان لابدَّ لنا من تجريبهم ، والتأكد من توجّه القذيفة ( الحجرة )
في مسارٍ مستقيم ..
وهذا كان غالباً يُظبط من توازن فردتي المطاط ، وكنا نسمّيه
وقتذاك ( اللاصطيك أو لاصطيك الچطل ) ..
نعم إنها الطفولة ، وشقاوة الطفولة ، وعفويّة الطفولة وبرائتها
هي التي دفعتني في تلكَ اللحظة ، لأقول لخالي الصغير : أبتعد
قليلاً لكي أُصوِّب نحوكَ وأرى إذا كان الچطل جيداً أم لا ..!
وفعلاً أبتعد خالي ، ووقف في منتصف آخر الزقاق بين الزاويتين
المتقابلتين ( زاوية بيت كبرو ختّنيه ..وزاوية بيت بهنان گلعو )
ومن هناك ، من أمام باب بيت جدي الرئيسي ، والمسافة تزيد على
الثلاثين متراً ، صوَّبتُ سلاحي نهو الهدف ( الذي هو خالي )
وقطعتُ نفسي ، ثم أطلقتُ القذيفة ...فأصبتُ الهدف بالتمام ..
وكيف ليَّ وأنا يومذاك ، في مثل ذاكَ السن ، أن أفكر بعيداً وبعمق
وأقدِّر عواقب العمل الذي قمتُ به ،وما يمكن أن ينتج عنه من مخاطر
ومصائب .. لا أبداً ، فتفكيري لم يكن بذاك المستوى ، فالطلقة التي
أطلقتها بأتجاه خالي ، جاءت سرعتها بسرعة البرق ، لتصطدم مباشرة
في وسط جبينه ، ولتترك خلفها حفرة عميقة ، لازال أثرها باقياً لغاية
اليوم ، والظريف كلما أتاحت لنا الفرصة وألتقينا ، أنظر إلى تلك الحفرة
على جبينه وأضحك ، فيقول : والله هاي كلاَّ منكْ ...!!!
هذه المشاهد مرّة أمام ناظري بسرعة ، كشريّطاً سينمائيّاً ، وأنا متردد
مابين الصعود إلى الشجرة ، أم لا ..! في النهاية أتخذتُ قراري النهائي
بالصعود ... فصعدتُ ... وبدأتُ عملي بكل جدارة وتقنيّة ، وأنا أدمدم
أغنية جانا الهوى جانا ، ورمانا الهوى رمانا .. ولكن ياحسرة ، لم
أكن أدري كيفَ جانا .. وأينَ رمانا ؟! .. وكيف ليَّ أن أعرف
ماذا كانَ ينتظرني ؟
وأنا في تلكّ اللحظة ، بغاية النشوة والسعادة ، منفرداً لوحدي وشارداً
بتأملاتي وأحلامي وذكرياتي ، وأنا أدمدِم مع عبد الحليم حافظ
تلكَ الأغنية العزيزة على قلبي ..!
لم يمضي إلاَّ حوالي النصف ساعة ، حتى كنتُ قد أنتهيتُ من تقليم
الجزء السفلي من الشجرة ، وهنا كان لابدَّ لي أن أصعد قليلاً بأتجاه
القمّة ( ناسياً بأنَّ الصعود نحو القمّة ليس بالأمر السهل ..ومن طلب
العُلى سهر الليالي ) لكنني صعدتُ ، ورحتُ واضعاَ رجلي اليمنى
على أحّد الأغصان المتينة ، واليسرى على آخر ..وتابعتُ العمل
في يدي اليمنى ، كنتُ أستخدم مقصّاً صغيراً، وأنا ممسكاً بيدي
اليُسرى بأحّد الأغصان ، لكي أُثبِّت توازني من جهة ، ومن
جهة أخرى أضمن عدم السقوط ... هذا كان قبل أن أضطر إلى
إستبداله بمقصِّ آخر ، طويل الذراع ، لأتمكّن من تقليم الفروع
العلويّة من الشجرة ، وبالطبع كنتُ مجهَّزاً سلفاً بكامل العدّة
الميدانيّة قبل الصعود إلى فوق ..!
لم تكن الأغنية بعد قد أنتهت ، عندما أصبحتُ في الأعالي ..
كنتُ في مقطع : يارميني بسحر عينك الأتنين ..ماتقولي وَخدني
ورايح فين.... ؟!
نعم .. ماتقولي وَخدني ورايح فين .. كانت آخر ماأتذكرهُ ..
أمَّا في الهواء ، وأنا أطير نحو الأسفل ، أذكر أيضاً قلتُ :
(يارب لا على ظهري ) .. بعدها وأنا أصطدم بالأرض شعرتُ
بألمٍ حادٍ ، قابلتهُ بردة فعلٍ ، ثمَّ أسودَّت وأظلمت الدنيا أمام عينيَّ
لأرحل بعدها في غيبوبة خارجة عن نطاق إرادتي ...
كم من الوقت أستغرقتْ رحلتي ؟ الله وأعلم ..!
لكن ماأعلمهُ عندما رجعتُ مرّة أخرى إلى الحياة ، وفتحتُ
أعيني ، لأجد نفسي مستلقياً على ظهري ، ولازلتُ أقبض
بكلتا يدي على ذراعيِّ المقص ، شكرتُ الله من أعماقي لأنه
لم يستجب إلى طلبي وأنا في الهواء ، لأنني لو أتيتُ على
بطني ، لربما أخترقها المقص اللعين ، وكان سبباً في نهايتي .
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد
[/size]ولكن هذه المرّة أنا الذي فوق الشجرة ، وأنا بطل الفيلم الذي
شاهدته في السبعينات من القرن المنصرم ، حيثُ كان يلعب
أدوار البطولة فيه نخبة من المشاهير أمثال عبد الحليم حافظ
وعماد حمدي ، ونادية لطفي ، وميرفت أمين ..وغيرهم من الذين
لا أتذكرهم الآن ..ولكن الشيء الذي أذكره هو بعض الأغاني
التي غنَّاها المطرب عبدالحليم حافظ وقتذاك ، مثل جانا الهوى
جانا ، والهوى هوايا ، ومشيت على الأشواكْ ..وغيرها من
الأغاني التي بقيت محفوظة على مرِّ الزمن والسنين ...!
كان الوقت خريفيّاً .. لم يكن المطر شديد الإنهمار .. إنما رُذاذٌ
خفيف كان يتطاير مع هبوب نسمات الهواء اللطيفة المنعشة ..
في حديقة داري شجرتا تفاح ، وشجرة كرز ، وأخرى شجرة
أجاص ..وهذه الأخيرة كانت التي سأتسلقها لأتمكن من تقليم
أغصانها ، كما نصحوني أصحاب الخير والمعرفة والخبرة..
لم تكن الشجرة عالية القامة ..كان أرتفاع ساقها عن الأرض
حوالي المترين .. رغم ذلك ترددتُ في الصعود ، وكأنَّ صوتاً
من أعماقي صرخ بي : لا ... لا تصعد ..!
كيفَ لا أصعد ؟ وما هو الذي يمنعني عن الصعود ، فالشجرة
ليست عالية ..وهاهو السّلم بجانبي ، سأصعد بعض درجاته
لأكون مباشرة فوق هذه الشجرة الصغيرة ..نعم الصغيرة
قياساً بتلكَ الأشجار التي كنَّا نتسلقها هناكَ في ديريك
أو عندما كنا نذهب إلى القرى لأصطياد العصافير ، حيث كنا
أحياناً كثيرة نتسلق إلى قمَّة الشجرة الباسقة ، للإنقضاض على
فراخ العصافير ، وهي في أعشاشها ..! ( وكلما تذكرتُ الآن
تلكَ المشاهد الوحشيّة التي كنا نقوم بها ضدَّ تلكَ الطيور
المسكينة ، البريئة ، يتملكني شيئاً من الإشمئزاز بالنفس )
أجل كنا في دور الطفولة ، عندما كنا نتسلق تلك الأشجار العالية
دون خوف أو مهابة ، ولازلتُ أذكر شجرة التوت المرتفعة في
حوش بيت جدّي ( يعقوب ساره ) حيث كان يركن تحتها
ذاكَ البئر العميق الغنيّ بمياهه العذبة ، الذي كان يستقبل على
مدار الساعة ، النسوة والصبايا اللواتي كنَّ يملأنَّ جرارهن
بالأهازيج والنكات والحكايات الجميلة ..
لازلتُ أذكر جيّدا كيف كنا أنا وخالي الذي كان يصغرني
ربما سنة واحدة ، أو أقل .. كنا نصعد شجرة التوت مع حلول
المساء ، وبداية عرض الفيلم في سينما ( هتّيهْ ) الصيفيّة
كانت المسافة بين السينما ، وبيت جدي ، تزيد على النصف
كيلو متر ، أو أكثر .. ورغم هذه المسافة ، كنا أنا وخالي
نصعد الشجرة ، لنتفرّج على الفيلم ..! بالطبع كانَ ذلكَ أمراً
مستحيلاً أن ترى الأشخاص والأحداث ، وربما ماكنّا نراهُ
كان مجرّد خيال ، أو تحركات غير واضحة على تلك الشاشة
البيضاء الكبيرة ..! ولكن ماذا أقول ؟ فهي الطفولة ، وشقاوة
الطفولة ، التي كانت تدفعني أحياناً لأقول لخالي : ها إنني
أرى البطل وهو راكباً حصانه ، وهاهي البطلة تقف بجانبه ..
فكان خالي يُحلِّفني ويقول : قول بالمسيح ..! فكنتُ أحلف بطيبة
خاطر وتفاخر وأقول : بالمسيح.. بالمسيح ..! فكانَ يقول : ولكن
لماذا لا أراهم أنا ؟ فكنتُ أقول له ُ : ربما لأنني قد صعدتُ أعلى
منكَ .. فكان يحاول الوصول إلى عندي بين خشخشات الأغصان
وتمايلها ، لينتبه لنا جدي ( رحمه الله ) ويصرخ علينا تلكَ الصرخة
المجلجلة ، التي لاتزال تطنُّ في مسمعي ...!!
نعم هذه بعض ذكرياتي مع خالي التي لاتنتسى ..ولكن هُناكَ ذكرى
ليس فقط لاتنتسى ، بل لايستطيع الدهر إزالتْ أثرها ..ففي إحدى
الأيام ذهبنا كلانا إلى دكان المرحوم ( صليبا صولكر ) وأشترينا
مطاط ، وقمنا بعمل (چطلين ) أو مايسمّى بالنقيّفه التي كنا نصطاد
بها العصافير ..ولكن ليس العصافير فقط ، إنما كل ماكان مُشاعاً
لنا في ذاكَ الوقت ، كالقطط ، والضفادع ، والدجاج ...والخ ، في وقت
لم تكن فيه جمعيَّات الرفق بالحيوان قد ظهرت .. وبعد الأنتهاء من
العمل ، كان لابدَّ لنا من تجريبهم ، والتأكد من توجّه القذيفة ( الحجرة )
في مسارٍ مستقيم ..
وهذا كان غالباً يُظبط من توازن فردتي المطاط ، وكنا نسمّيه
وقتذاك ( اللاصطيك أو لاصطيك الچطل ) ..
نعم إنها الطفولة ، وشقاوة الطفولة ، وعفويّة الطفولة وبرائتها
هي التي دفعتني في تلكَ اللحظة ، لأقول لخالي الصغير : أبتعد
قليلاً لكي أُصوِّب نحوكَ وأرى إذا كان الچطل جيداً أم لا ..!
وفعلاً أبتعد خالي ، ووقف في منتصف آخر الزقاق بين الزاويتين
المتقابلتين ( زاوية بيت كبرو ختّنيه ..وزاوية بيت بهنان گلعو )
ومن هناك ، من أمام باب بيت جدي الرئيسي ، والمسافة تزيد على
الثلاثين متراً ، صوَّبتُ سلاحي نهو الهدف ( الذي هو خالي )
وقطعتُ نفسي ، ثم أطلقتُ القذيفة ...فأصبتُ الهدف بالتمام ..
وكيف ليَّ وأنا يومذاك ، في مثل ذاكَ السن ، أن أفكر بعيداً وبعمق
وأقدِّر عواقب العمل الذي قمتُ به ،وما يمكن أن ينتج عنه من مخاطر
ومصائب .. لا أبداً ، فتفكيري لم يكن بذاك المستوى ، فالطلقة التي
أطلقتها بأتجاه خالي ، جاءت سرعتها بسرعة البرق ، لتصطدم مباشرة
في وسط جبينه ، ولتترك خلفها حفرة عميقة ، لازال أثرها باقياً لغاية
اليوم ، والظريف كلما أتاحت لنا الفرصة وألتقينا ، أنظر إلى تلك الحفرة
على جبينه وأضحك ، فيقول : والله هاي كلاَّ منكْ ...!!!
هذه المشاهد مرّة أمام ناظري بسرعة ، كشريّطاً سينمائيّاً ، وأنا متردد
مابين الصعود إلى الشجرة ، أم لا ..! في النهاية أتخذتُ قراري النهائي
بالصعود ... فصعدتُ ... وبدأتُ عملي بكل جدارة وتقنيّة ، وأنا أدمدم
أغنية جانا الهوى جانا ، ورمانا الهوى رمانا .. ولكن ياحسرة ، لم
أكن أدري كيفَ جانا .. وأينَ رمانا ؟! .. وكيف ليَّ أن أعرف
ماذا كانَ ينتظرني ؟
وأنا في تلكّ اللحظة ، بغاية النشوة والسعادة ، منفرداً لوحدي وشارداً
بتأملاتي وأحلامي وذكرياتي ، وأنا أدمدِم مع عبد الحليم حافظ
تلكَ الأغنية العزيزة على قلبي ..!
لم يمضي إلاَّ حوالي النصف ساعة ، حتى كنتُ قد أنتهيتُ من تقليم
الجزء السفلي من الشجرة ، وهنا كان لابدَّ لي أن أصعد قليلاً بأتجاه
القمّة ( ناسياً بأنَّ الصعود نحو القمّة ليس بالأمر السهل ..ومن طلب
العُلى سهر الليالي ) لكنني صعدتُ ، ورحتُ واضعاَ رجلي اليمنى
على أحّد الأغصان المتينة ، واليسرى على آخر ..وتابعتُ العمل
في يدي اليمنى ، كنتُ أستخدم مقصّاً صغيراً، وأنا ممسكاً بيدي
اليُسرى بأحّد الأغصان ، لكي أُثبِّت توازني من جهة ، ومن
جهة أخرى أضمن عدم السقوط ... هذا كان قبل أن أضطر إلى
إستبداله بمقصِّ آخر ، طويل الذراع ، لأتمكّن من تقليم الفروع
العلويّة من الشجرة ، وبالطبع كنتُ مجهَّزاً سلفاً بكامل العدّة
الميدانيّة قبل الصعود إلى فوق ..!
لم تكن الأغنية بعد قد أنتهت ، عندما أصبحتُ في الأعالي ..
كنتُ في مقطع : يارميني بسحر عينك الأتنين ..ماتقولي وَخدني
ورايح فين.... ؟!
نعم .. ماتقولي وَخدني ورايح فين .. كانت آخر ماأتذكرهُ ..
أمَّا في الهواء ، وأنا أطير نحو الأسفل ، أذكر أيضاً قلتُ :
(يارب لا على ظهري ) .. بعدها وأنا أصطدم بالأرض شعرتُ
بألمٍ حادٍ ، قابلتهُ بردة فعلٍ ، ثمَّ أسودَّت وأظلمت الدنيا أمام عينيَّ
لأرحل بعدها في غيبوبة خارجة عن نطاق إرادتي ...
كم من الوقت أستغرقتْ رحلتي ؟ الله وأعلم ..!
لكن ماأعلمهُ عندما رجعتُ مرّة أخرى إلى الحياة ، وفتحتُ
أعيني ، لأجد نفسي مستلقياً على ظهري ، ولازلتُ أقبض
بكلتا يدي على ذراعيِّ المقص ، شكرتُ الله من أعماقي لأنه
لم يستجب إلى طلبي وأنا في الهواء ، لأنني لو أتيتُ على
بطني ، لربما أخترقها المقص اللعين ، وكان سبباً في نهايتي .
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد