المعذرة ياجدّي . بقلم : فريد توما مراد
مرسل: الأحد أكتوبر 06, 2013 8:18 pm
المعذرة ياجدّي .

إذا كان الزمن يُقاس ويعرف بالأعوام والأحداث والأماكن...... إذاً
فنحن في منتصف الستينيات من القرن المنصرم ، وعمري لايتجاوز
العشرة أعوام ، والمكان ديريك ، وشمسها قد قاربت نحو المغيب
والعصافير بدأت تأوي إلى أعشاشها ، والفتيات أخذنَ يجهِّزنَ
أنفسهنَّ للخروج ، وكذا الشباب ، لتبدأ مسيرة ( المشوار على الجسر )
أمّا النسوة ، فبعد أن قضين يوماً شاقاً ومتعباً ، بدأن يرتِّبن
القعدة أمام باب الدار ، فها هي الأرض قد رُشَّت بالمياه ، لتنبعث منها
رائحة التراب المتميّزة ، لتختلط مع عبق النسيم المنعش القادم من تلك الكروم والبساتين الجميلة
وها هي الكراسي الصغيرة قد أخذت أماكنها لتستقبل الزائرات القادمات من هنا وهناك ، من دون
ميعادٍ مُسبق ، بل هكذا تعوَّدنَ ، لتبدأ أحاديث السمر النسائيّة .
ثمّة أولاد بأعمارٍ متقاربة ، تجمَّعوا عند زاوية إحدى البيوت الترابيّة
يتبادلون الآراء ويتَّفقون على اللعبة التي سيبدأون بها... !
وكيف لي لأعرف ذلك إن لم أكن بينهم ؟
أجل كنت بينهم ، وربما كنت أقصرهم في تلك المرحلة من العمر
وهكذا بقيتُ لغاية الرابعة عشر من عمري ، ليعوِّضني الله بعدها تدريجيّاً
بقامة منتصبة ومقبولة نوعاً ما ، لازالت تلازمني لغاية اليوم .
أصواتٌ مرتفعة ومتداخلة وشبه صريخ مسموع إنما غير مفهوم
يأتيك من الحارات المجاورة .. لاشكَّ أنهم الأولاد قد أبتدؤوا ألعابهم أيضاً ..
نهق حمار جارنا نهقة طويلة ، تلتها بضعة نهقات متقطِّعة ، فهو حر ينهق متى يشاء ،
وكيفما يشاء ، ربما ليثبت وجوده
في الحي ، أو قد يكون في تلك اللحظة خطرت على باله معشوقته
فمن حقه أن يعيش ويتمتَّع ككائن يقطن معنا وبيننا ..
هناك في بداية معبر شارعنا الواسع ، جاءت وهي تتمخطر في مشيتها
لم تكن بحاجة إلى من يدلَّها على البيت .. إنها تعرفه جيّداً .. لقد قطعت شوارع وأزقّة عديدة ..
فهي ذكيّة جداً ومطيعة وهادئة ، لا بل ، فكل
البقرات كنَّ في ذلك الوقت بهذا المستوى ، وليست فقط بقرة بيت ( عمّي بهنان )
ويكفي أن يعود بهنَّ الراعي إلى
مدخل المدينة ويسرحهنَّ مغبوطات آمنات مطمئنَّات .
نعم هكذا كانت تعيش البقرات وقتئذٍ ، بحرّية تامة ، مكرّمة معزَّزة
دون خوفٍ أو رقيبٍ أو ضغوط داخليّة كانت ، أم خارجيّة .
وراء الباب كنتُ قد إختبأتُ .. كانت اللعبة التي أتفقنا عليها
لعبة الغمّيضة ، وكنا نسميها بلهجتنا الخاصة ( المخطبويه )
لم يكن قصدي أبداً إستراق السمع والتنصّت على الحديث الدائر
بين جدي وبعض الرجال الآخرين من حارتنا ، والحارات
الأخرى المجاورة ، الذين كانوا قد أتَّخذوا أماكنهم أمام باب دارنا
ومع إني لم أكن أفقه لمعظم الحديث الذي كان يدور بينهم ، أو ربما
لم تكن تهمّني مثل تلك الأحاديث وأنا في ذاك العمر ، كنت وقتئذٍ
أسعى جاهداً كي لايلمحني رفيقي الذي بدأ بالبحث عنّا ، فإن لمح أحَّدنا
يكون خارج اللعبة.. ولكن رغم كل ذلك وجدتني مشدوداً إلى ماكان
يدور بينهم من حديث ، وقد يكون السبب هو مشاهدتي المكان الذي كان
محور حديثهم ، وأنا في السابعة من عمري ، أي قبل ثلاثة أعوام من
ذلك ، كان الحديث يدور بطبقة عالية ، إذ ليس جدّي وحده من كان يشكو ضعف السمع ، إنما آخرين
غيره أيضاً ..... ولكن كان جدّي من أطلق حسرةً عميقة ، وسمعته يقول :
- لقد مضى أكثر من ثلاثون عاماً ، منذ أن هاجرنا ( آزخ ) وأتينا إلى ( ديريك ) ،
إنكَ لتحسبها البارحة .. أنقضى الوقت بسرعة ياجماعة ..!
- معك حق يامراد ( وهذا أسم جدّي لأبي ) كل شيءٍ جرى بسرعة
ولكن تلك الأيام التي عشناها في آزخ ، لازالت باقية في صدورنا ، ولايمكن
نسيانها أبداً ، مهما طال بنا الزمن . وكان صوت العم يعقوب ، الذي شهق
شهقة عميقة ، وأطلق أيضاً حسرة مسموعة .
- على ماذا تتحسَّرون ؟ فالحياة هناك كانت أكثر قساوة وخشونة ، ونحن
اليوم نعيش في نعيم ، مقارنة بتلك الأيام .. وكان صوتاً آخر من بين الجالسين ...
وعلى ماأظن كان العم كوركيس المتكلّم هذه المرّة ، ففي تلك اللحظة
كانت جدَّتي تكلِّمني ، تلومني وتنهرني لجلوسي على الأرض
بينما كنت أسترجوها أن لاترفع صوتها ، كي لا يكتشف رفيقي مكاني .
- ردَّ جدّي بحدة وقال: لاتقل هكذا ياأخي ..! نعم كانت أيامنا هناك شاقة ومتعبة وقاسية
فبرغم كل ذلك ، وبرغم الويلات والحروب والإضطهادات والنكبات
التي حلَّت بنا ، كانت لحياتنا هناك نكهة خاصة ، لم نتذوَّقها هنا لحدِّ الآن .
- وهذه هي الحقيقة يامراد ، وأظن سنموت في حسرات آزخ .
- صدقت يايعقوب ..سنموت في حسرات آزخ ، وهواء آزخ .
في تلك الأثناء ، عَلتْ أصوات رفاقي من الخارج على أصوات
المتحدثين ، ولم أعد أسمع سوى نداء جماعي يقول : أخرج يا (فريد)
أين أنت ؟! لقد أنتهت اللعبة ..!
المعذرة ياجدي .. لقد أنتهت اللعبة ..!
فبعد مرور حوالي خمسةٌ وثلاثون عاماً على ذلك المشهد
هاأنني الآن جالس وحيداً في مكتبي ، والساعة تشير إلى
الثانية والنصف بعد منتصف الليل ، وأنا أحاول إستعادته
لأنقله بأمانة إلى هذه الشاشة المضيئة أمامي ، شاشة الكومبيوتر
نعم الكومبيوتر ياجدّي، وماأظنكَ تعرفه ، وليس لديَّ الآن المتَّسع من الوقت لأحدِّثكَ عنه
وربما فعلت ذلك لاحقاً .. أجل ياجدّي أُحاول أن أنقل
المشهد ليبقى محفوظاً هنا في هذا العالم الرهيب ، علّه يأتي يوماً يقرأه
أحفادنا (الإلكترونيون ) فيتذكرونا ويقولون : هؤلاء كانوا أجدادنا ..!
المعذرة ياجدي : اليوم فقط أحسستُ بتلك الحسرة التي أطلقتها على آزخ
إنها ذات الحسرة أطلقها اليوم أنا على ديريك ...!
نعم ياجدي : ما جراكم في آزخ وطورعبدين ، يجري علينا اليوم .. لقد
حرقوا كنائسنا ، دمَّروا منازلنا ، أتلفوا محاصيلنا ، جرّوا سكاكينهم
على رقابنا ، خطفوا مُسالِمينا ، إنتزعوا الصلبان المنيرة من فوق القباب
ورفعوا مكانها أعلاماً سوداء، وأظنها ياجدّي رمز إله الشر ، رمز العالم السفلي
عالم الأموات ..! لم تبقى فاحشة إلاَّ وفعلوها بإسم إلَه الشر
نعم ياجدي ، إله الشر ..! فليس من إله غيره يستلذ بما يجري ..
أتدري ياجدي .. لقد أكل الإنسان قلب أخيه الإنسان ..!! أيُّ فظاعة أكثر من ذلك !!
حتى الأطفال ياجدي ، علَّموهم كيف يضحكون ويصفقون ويرقصون
حيثُ يذبح أمام أعينهم إنسان ..!! (نعم إنسان ياجدّي...! وليس حيوان ) لابل علَّموهم
أن يُكبِّروا يإسم الله ، (عفواً وأقصد الشيطان ) عندما يُفصل الرأس عن الجسد ..!
فهذه من طقوس العبادة ، وفروض الجهاد
ورموز القداسة عندهم ، فأيُّ وحشيّة أكثر من ذلك ياجدّي ؟!
جدّي : خمسةٌ وثلاثون عاماً أنقضت على هجرتي الوطن ، كأنَّها البارحة
( وهذا ماسمعته منك أيضاً وقتذاك ، وكأنَّ التاريخ يُعيد نفسه..! )
لقد توالت الأيام بسرعة .. أحياناً أسأل نفسي وأقول : الحياة
التي عشتها هنا في الغربة ، أكثر من التي عشتها على أرض الوطن ..
ولكن لماذا كلَّما غفوتُ ، فأحلامي كلها هناك ياجدّي ؟!
ولماذا كلَّما صحوتُ ، أخال نفسي هناك ياجدّي ؟!
كم مرّةٍ ومرّة ، حاولت أن أقنع نفسي بنسيان الماضي ، والرضوخ
للواقع ...لكن دون جدوى ..!
كم مرَّة ومرّة حدَّثتُ قلبي ورجوته أن يترك الوطن جانباً .. فأبى ..!
آه ياجدّي .. لقد فعلتُ المستحيل كي أنسى ، ولكن عبثاً فعلتُ ..
ويظهرهناك قاسماً مشتركاً بيني وبينك ياجدّي ، أتدري ماهو ؟
إنَّه...{ الحسرة }...!!!
أجل الحسرة ياجدّي ..تلك الحسرة التي سمِعتها منك تطلقها على آزخ قبل سنين بعيدة
هناك أمام باب دارنا ، عند الغسق ، حيث كانت ديريك تتنفّس الحريّة ، وتنبض بالحيويّة والنشاط ...
ها أنا أطلقها الآن على ديريك ، من هنا ، من مكتبي ، من السويد ، من ستوكهولم ، حيثُ النعيم
وحيث الهناء ، ولكن......(المعذرة منك ياجدّي ) لا أستطيع أن أُكمل ، لقد دبَّ النعاس في عينيَّ وتعبتُ
فها قد أقبل الصباح ، والشمس أخذت تشرق من جديد وهاهي العصافير قد تركت أعشاشها
وبدأت تغرِّد لتستقبل فجراً جديداً ، أمَّا أنا ، فقد حان وقت نومي.... لهذا أستودعك الله ياجدّي .
فريد توما مراد
6-10-2013
ستوكهولم - السويد
[/size]
إذا كان الزمن يُقاس ويعرف بالأعوام والأحداث والأماكن...... إذاً
فنحن في منتصف الستينيات من القرن المنصرم ، وعمري لايتجاوز
العشرة أعوام ، والمكان ديريك ، وشمسها قد قاربت نحو المغيب
والعصافير بدأت تأوي إلى أعشاشها ، والفتيات أخذنَ يجهِّزنَ
أنفسهنَّ للخروج ، وكذا الشباب ، لتبدأ مسيرة ( المشوار على الجسر )
أمّا النسوة ، فبعد أن قضين يوماً شاقاً ومتعباً ، بدأن يرتِّبن
القعدة أمام باب الدار ، فها هي الأرض قد رُشَّت بالمياه ، لتنبعث منها
رائحة التراب المتميّزة ، لتختلط مع عبق النسيم المنعش القادم من تلك الكروم والبساتين الجميلة
وها هي الكراسي الصغيرة قد أخذت أماكنها لتستقبل الزائرات القادمات من هنا وهناك ، من دون
ميعادٍ مُسبق ، بل هكذا تعوَّدنَ ، لتبدأ أحاديث السمر النسائيّة .
ثمّة أولاد بأعمارٍ متقاربة ، تجمَّعوا عند زاوية إحدى البيوت الترابيّة
يتبادلون الآراء ويتَّفقون على اللعبة التي سيبدأون بها... !
وكيف لي لأعرف ذلك إن لم أكن بينهم ؟
أجل كنت بينهم ، وربما كنت أقصرهم في تلك المرحلة من العمر
وهكذا بقيتُ لغاية الرابعة عشر من عمري ، ليعوِّضني الله بعدها تدريجيّاً
بقامة منتصبة ومقبولة نوعاً ما ، لازالت تلازمني لغاية اليوم .
أصواتٌ مرتفعة ومتداخلة وشبه صريخ مسموع إنما غير مفهوم
يأتيك من الحارات المجاورة .. لاشكَّ أنهم الأولاد قد أبتدؤوا ألعابهم أيضاً ..
نهق حمار جارنا نهقة طويلة ، تلتها بضعة نهقات متقطِّعة ، فهو حر ينهق متى يشاء ،
وكيفما يشاء ، ربما ليثبت وجوده
في الحي ، أو قد يكون في تلك اللحظة خطرت على باله معشوقته
فمن حقه أن يعيش ويتمتَّع ككائن يقطن معنا وبيننا ..
هناك في بداية معبر شارعنا الواسع ، جاءت وهي تتمخطر في مشيتها
لم تكن بحاجة إلى من يدلَّها على البيت .. إنها تعرفه جيّداً .. لقد قطعت شوارع وأزقّة عديدة ..
فهي ذكيّة جداً ومطيعة وهادئة ، لا بل ، فكل
البقرات كنَّ في ذلك الوقت بهذا المستوى ، وليست فقط بقرة بيت ( عمّي بهنان )
ويكفي أن يعود بهنَّ الراعي إلى
مدخل المدينة ويسرحهنَّ مغبوطات آمنات مطمئنَّات .
نعم هكذا كانت تعيش البقرات وقتئذٍ ، بحرّية تامة ، مكرّمة معزَّزة
دون خوفٍ أو رقيبٍ أو ضغوط داخليّة كانت ، أم خارجيّة .
وراء الباب كنتُ قد إختبأتُ .. كانت اللعبة التي أتفقنا عليها
لعبة الغمّيضة ، وكنا نسميها بلهجتنا الخاصة ( المخطبويه )
لم يكن قصدي أبداً إستراق السمع والتنصّت على الحديث الدائر
بين جدي وبعض الرجال الآخرين من حارتنا ، والحارات
الأخرى المجاورة ، الذين كانوا قد أتَّخذوا أماكنهم أمام باب دارنا
ومع إني لم أكن أفقه لمعظم الحديث الذي كان يدور بينهم ، أو ربما
لم تكن تهمّني مثل تلك الأحاديث وأنا في ذاك العمر ، كنت وقتئذٍ
أسعى جاهداً كي لايلمحني رفيقي الذي بدأ بالبحث عنّا ، فإن لمح أحَّدنا
يكون خارج اللعبة.. ولكن رغم كل ذلك وجدتني مشدوداً إلى ماكان
يدور بينهم من حديث ، وقد يكون السبب هو مشاهدتي المكان الذي كان
محور حديثهم ، وأنا في السابعة من عمري ، أي قبل ثلاثة أعوام من
ذلك ، كان الحديث يدور بطبقة عالية ، إذ ليس جدّي وحده من كان يشكو ضعف السمع ، إنما آخرين
غيره أيضاً ..... ولكن كان جدّي من أطلق حسرةً عميقة ، وسمعته يقول :
- لقد مضى أكثر من ثلاثون عاماً ، منذ أن هاجرنا ( آزخ ) وأتينا إلى ( ديريك ) ،
إنكَ لتحسبها البارحة .. أنقضى الوقت بسرعة ياجماعة ..!
- معك حق يامراد ( وهذا أسم جدّي لأبي ) كل شيءٍ جرى بسرعة
ولكن تلك الأيام التي عشناها في آزخ ، لازالت باقية في صدورنا ، ولايمكن
نسيانها أبداً ، مهما طال بنا الزمن . وكان صوت العم يعقوب ، الذي شهق
شهقة عميقة ، وأطلق أيضاً حسرة مسموعة .
- على ماذا تتحسَّرون ؟ فالحياة هناك كانت أكثر قساوة وخشونة ، ونحن
اليوم نعيش في نعيم ، مقارنة بتلك الأيام .. وكان صوتاً آخر من بين الجالسين ...
وعلى ماأظن كان العم كوركيس المتكلّم هذه المرّة ، ففي تلك اللحظة
كانت جدَّتي تكلِّمني ، تلومني وتنهرني لجلوسي على الأرض
بينما كنت أسترجوها أن لاترفع صوتها ، كي لا يكتشف رفيقي مكاني .
- ردَّ جدّي بحدة وقال: لاتقل هكذا ياأخي ..! نعم كانت أيامنا هناك شاقة ومتعبة وقاسية
فبرغم كل ذلك ، وبرغم الويلات والحروب والإضطهادات والنكبات
التي حلَّت بنا ، كانت لحياتنا هناك نكهة خاصة ، لم نتذوَّقها هنا لحدِّ الآن .
- وهذه هي الحقيقة يامراد ، وأظن سنموت في حسرات آزخ .
- صدقت يايعقوب ..سنموت في حسرات آزخ ، وهواء آزخ .
في تلك الأثناء ، عَلتْ أصوات رفاقي من الخارج على أصوات
المتحدثين ، ولم أعد أسمع سوى نداء جماعي يقول : أخرج يا (فريد)
أين أنت ؟! لقد أنتهت اللعبة ..!
المعذرة ياجدي .. لقد أنتهت اللعبة ..!
فبعد مرور حوالي خمسةٌ وثلاثون عاماً على ذلك المشهد
هاأنني الآن جالس وحيداً في مكتبي ، والساعة تشير إلى
الثانية والنصف بعد منتصف الليل ، وأنا أحاول إستعادته
لأنقله بأمانة إلى هذه الشاشة المضيئة أمامي ، شاشة الكومبيوتر
نعم الكومبيوتر ياجدّي، وماأظنكَ تعرفه ، وليس لديَّ الآن المتَّسع من الوقت لأحدِّثكَ عنه
وربما فعلت ذلك لاحقاً .. أجل ياجدّي أُحاول أن أنقل
المشهد ليبقى محفوظاً هنا في هذا العالم الرهيب ، علّه يأتي يوماً يقرأه
أحفادنا (الإلكترونيون ) فيتذكرونا ويقولون : هؤلاء كانوا أجدادنا ..!
المعذرة ياجدي : اليوم فقط أحسستُ بتلك الحسرة التي أطلقتها على آزخ
إنها ذات الحسرة أطلقها اليوم أنا على ديريك ...!
نعم ياجدي : ما جراكم في آزخ وطورعبدين ، يجري علينا اليوم .. لقد
حرقوا كنائسنا ، دمَّروا منازلنا ، أتلفوا محاصيلنا ، جرّوا سكاكينهم
على رقابنا ، خطفوا مُسالِمينا ، إنتزعوا الصلبان المنيرة من فوق القباب
ورفعوا مكانها أعلاماً سوداء، وأظنها ياجدّي رمز إله الشر ، رمز العالم السفلي
عالم الأموات ..! لم تبقى فاحشة إلاَّ وفعلوها بإسم إلَه الشر
نعم ياجدي ، إله الشر ..! فليس من إله غيره يستلذ بما يجري ..
أتدري ياجدي .. لقد أكل الإنسان قلب أخيه الإنسان ..!! أيُّ فظاعة أكثر من ذلك !!
حتى الأطفال ياجدي ، علَّموهم كيف يضحكون ويصفقون ويرقصون
حيثُ يذبح أمام أعينهم إنسان ..!! (نعم إنسان ياجدّي...! وليس حيوان ) لابل علَّموهم
أن يُكبِّروا يإسم الله ، (عفواً وأقصد الشيطان ) عندما يُفصل الرأس عن الجسد ..!
فهذه من طقوس العبادة ، وفروض الجهاد
ورموز القداسة عندهم ، فأيُّ وحشيّة أكثر من ذلك ياجدّي ؟!
جدّي : خمسةٌ وثلاثون عاماً أنقضت على هجرتي الوطن ، كأنَّها البارحة
( وهذا ماسمعته منك أيضاً وقتذاك ، وكأنَّ التاريخ يُعيد نفسه..! )
لقد توالت الأيام بسرعة .. أحياناً أسأل نفسي وأقول : الحياة
التي عشتها هنا في الغربة ، أكثر من التي عشتها على أرض الوطن ..
ولكن لماذا كلَّما غفوتُ ، فأحلامي كلها هناك ياجدّي ؟!
ولماذا كلَّما صحوتُ ، أخال نفسي هناك ياجدّي ؟!
كم مرّةٍ ومرّة ، حاولت أن أقنع نفسي بنسيان الماضي ، والرضوخ
للواقع ...لكن دون جدوى ..!
كم مرَّة ومرّة حدَّثتُ قلبي ورجوته أن يترك الوطن جانباً .. فأبى ..!
آه ياجدّي .. لقد فعلتُ المستحيل كي أنسى ، ولكن عبثاً فعلتُ ..
ويظهرهناك قاسماً مشتركاً بيني وبينك ياجدّي ، أتدري ماهو ؟
إنَّه...{ الحسرة }...!!!
أجل الحسرة ياجدّي ..تلك الحسرة التي سمِعتها منك تطلقها على آزخ قبل سنين بعيدة
هناك أمام باب دارنا ، عند الغسق ، حيث كانت ديريك تتنفّس الحريّة ، وتنبض بالحيويّة والنشاط ...
ها أنا أطلقها الآن على ديريك ، من هنا ، من مكتبي ، من السويد ، من ستوكهولم ، حيثُ النعيم
وحيث الهناء ، ولكن......(المعذرة منك ياجدّي ) لا أستطيع أن أُكمل ، لقد دبَّ النعاس في عينيَّ وتعبتُ
فها قد أقبل الصباح ، والشمس أخذت تشرق من جديد وهاهي العصافير قد تركت أعشاشها
وبدأت تغرِّد لتستقبل فجراً جديداً ، أمَّا أنا ، فقد حان وقت نومي.... لهذا أستودعك الله ياجدّي .
فريد توما مراد
6-10-2013
ستوكهولم - السويد