مار اسحاق الأنطاكي 3!!

أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
إسحق القس افرام
مدير الموقع
مدير الموقع
مشاركات: 48840
اشترك في: السبت إبريل 17, 2010 8:46 am
مكان: السويد

مار اسحاق الأنطاكي 3!!

مشاركة بواسطة إسحق القس افرام »

الربان يوسف أخرس
في الآداب السريانية تصانيف شعرية وافرة (ميامر ومداريش)، تُنسَب إلى الملفان مار اسحاق، الملقّب بالأنطاكي أو الرهاوي حيناً، وبالآمدي أحياناً، أحد أغزر الآباء السريان في الحقبة الأولى.
وعلى الرّغم من وفرة هذه القصائد المنسوبة إلى مار اسحاق، ما زالت أغلب كتاباته حتّى اليوم غير منشورة. ما نُشِر حتّى الآن هو ثلث مؤلّفاته فقط، بينما سيرة مار أفرام السرياني وكتاباته قد أُشبِعت درساً وتمحيصاً من قبل العلماء الغربيين والشرقيين، سواء نشر النصوص السريانية واليونانية وترجمتها إلى اللغات الحية، أو لجهة الدراسات المتخصّصة، ولئن كان هناك دائماً مجال للبحث والغوص في يمّ الملفان السرياني الأوّل.
منذ عشرين سنة، كان العالم سباستيان بروك قد حثّ الباحثين والدارسين على إيلاء اهتمام كاف لثلاثة كتّاب سريان من القرن الخامس: مار اسحاق الأنطاكي، مار يعقوب السروجي والمعلّم نرساي. ففيما سُمِع نداؤه بالنسبة إلى الكاتبين الآخرين، بقيت كتابات مار اسحاق مغمورة والدراسات يتيمة.
فالذين اهتمّوا بنشر وفهرسة كتابات مار اسحاق، هم على التوالي:
- السمعاني (المكتبة الشرقية، 1719): أحصى 105 ميمراً وأعطى ملخّصاً لكلّ ميمر.
- غوستاف بيكل (1873-1877): أحصى 182 قصيدة، ونشر منها 37 ميمراً مع ترجمتها اللاتينية.
- لامي (1882-1902): نشر ميامر لمار أفرام، فكان أنّ أربعة منها هي منسوبة في مخطوطات أخرى إلى مار اسحاق.
- بيجان (1903): نشر 67 ميمراً منسوباً لمار اسحاق تقع في 837 صفحة.
- سبستيان بروك (1987): فهرس كتابات مار اسحاق استناداً إلى الطبعات السابقة الثلاث (السمعاني، بيكل، بيجان).
آخر من عمل على فهرسة أعمال مار اسحاق كان ماتيوس الذي أحصى 185 ميمراً له على البحر السباعي و19 مدراشاً، من المخطوطات السريانية المحفوظة في متاحف العالم في الغرب، استعداداً لدراسة أشمل حول الموضوع.
مع ذلك، يبقى الموضوع متشعّباً لأنّ هذه القصائد المجموعة هي من تأليف عدّة أشخاص يحملون اسم اسحاق. فمن تصفّح هذه الآثار النفيسة، تبيّن له أنّه يوجد اسحاقون كثيرون، ثلاثة على الأقلّ، تولّوا صوغ هذه القصائد.
في البداية، ودفعاً لكلّ التباس، يجب أن ندع جانباً كاتباً سريانيًّا فذًّا يُعرف باسحاق النينوي لأنّ هذا عاش ومات نسطوريًّا في النصف الثاني من القرن السابع، وهو المعروف بمار اسحاق السرياني الذي ترك لنا روائع نثرية في الأدب النسكي. فالميامر التي نحن بصددها تعود إلى ثلاثة كتّاب حملوا اسم مار اسحاق، فاختلطت أشعارهم في أيدي النسّاك وبات تمييزها عسيراً لتقارب زمانهم وتشابه مَلَكَتهم إلاّ ما ندر. فعلى سبيل المثال، يظهر الشاعر خلقيدونياً في الميامر (1-3 طبعة بيكل 62-64 بيجان) وأرثوذكسيًّا لا خلقيدونيًّا (6 و8 طبعة بيكل 59 و61 بيجان). كما أنّ من الميامر ما يرتقي عهده إلى سنة 404، مثل الميامر على الألعاب القرنية، وغيره ما يتجاوز أوائل القرن السادس على عهد اسكلابيوس (522) أسقف الرها.
فهذه الدراسة ترمي إلى إلقاء الضوء على هذه الشخصيات الثلاث المعروفة باسم مار اسحاق، وعلى بعض جوانب فكره.
لقد ساعد على حلّ هذا المشكل التاريخي المعقّد الجواب الذي أرسله مار يعقوب الرهاوي (708+) على سؤال وجّهه إليه يوحنّا العامودي وكان الالتباس بين الإسحاقِين آخذاً مأخذه. ويمكننا الاعتماد على هذا الجواب نظراً إلى مكانة مار يعقوب الرهاوي العلمية وقرب عهده من زمان أصحاب هذه الميامر، فهو بالتالي أولى المؤرّخين بمعرفة أحوالهم.
يميّز مار يعقوب ثلاثة إسحاقِين ذاع صيتهم في القرنين الرابع والخامس.
1- مار اسحاق الآمدي: 363-418؟
وُلِد اسحاق في آمد وأخذ عن مار أفرام حين إقامته فيها مدة يسيرة عام 363 في ما روى يعقوب الرهاوي وكما جاء في سيرة القدّيس أفرام، وأتمّ قراءته على تلميذه زينوبيوس. وكان البطريرك ابن شوشان (1073) يحسبه تلميذ زينوبيوس فقط. قال الشعر ونظم على البحر السباعي قصائد حساناً وترهّب في دير للمغاربة وكان أرثوذكسيًّا.
قال المؤرّخ زكريا الفصيح أسقف جزيرة مدللي أنّه في أيّام أرقاديوس (395-408) وثاودوسيوس (408-450) - أي ما بين 395 و450 - كان اسحاق الملفان السرياني وذاع أمره بعد أفرام وتلاميذه. ورحل إلى رومية وغيرها من البلاد، وكانت رحلته إلى رومية في أيّام أرقاديوس لمشاهدة افتتاح قلعة الكابيتول. وحبّر قصيدتين في الألعاب القرنية عام 404 وفي استيلاء الأريق على رومية سنة 410، كما جاء في التاريخ المنحول لديونيسيوس التلمحري.
نستنتج من ذلك أنّ مار اسحاق قضى حوالي ستّ سنوات في تلك الحاضرة العامرة بالكنائس والقصور والمسارح والآثار الفخمة. وحين عودته أقام مديدة في مدينة بيزنطية وحُبِس في السجن لسبب لم يُذكر. ولمّا انكفأ إلى آمد سيمَ قسًّا.
يُعدّ من شعراء الطبقة الأولى لدى السريان الذين جمعوا بين العبقرية والقريحة. قصّد في موضوع التزهيد في الدنيا والدعوة إلى التوبة والسبيل التي تُدرك بها النجاة. وهو، إلى جانب مار يعقوب السروجي، يلي مار أفرام في هذا الفنّ الأدبي. ودخلتْ بعض ميامره في كتب الجناز القديمة (مخطوط فاتيكاني 92، يعود إلى سنة 823).
يذكر ابن العبري في كتاب الهدايات أنّ ثمة مئتين وأربع عشرة قصيدة مشتركة بين مار أفرام واسحاق الآمدي، ولكن هذا العدد لا يشمل إلاّ نخبة من ميامر الملفان، فُرِضتْ قراءتُها على خَدَمة الدين. وهكذا كثيرٌ من القصائد من صوغ مار اسحاق الآمدي نُسِبَت إلى مار أفرام: فالقصيدة الأفرامية في القصة اليوسفية (يوسف ابن يعقوب)، على سبيل المثال، هي في رأي ابن شوشان إمّا من نسج اسحاق أو ممّا حبكه بالاي أسقف بالش.
واعتبر البطريرك مار أفرام الأول برصوم أنّ أكثر القصائد التي نشرها بيجان هي من صوغ الآمدي وأقلّها من قرض الرهاوي الأنطاكي.
2- مار اسحاق الأنطاكي أو الرهاوي، المعروف بالكبير (491؟)
لم يدوّن أيّ من المؤرّخين القدماء سيرة اسحاق الرهاوي المولد الأنطاكي المنـزل. وأوّل من كتب عنه أخذاً عن شيوخ زمانه الثقات هو يعقوب الرهاوي. قال في جوابه إلى يوحنّا الأثاربي العمودي: إنّ اسحاق هذا كان قسًّا رهاويًّا شاعراً ملفاناً أرثوذكسيًّا. وهبَّتْ ريحه في أيّام القيصر زينون (474-491). ورحل إلى أنطاكية على عهد البطريرك بطرس الثاني المعروف بالقصّار (470-488) وذلك حين مقاومة النساطرة ومناقضتهم عبارة “يا من صُلِبتَ من أجلنا” وشاهد رجلاً شرقيًّا يحمل ببغاء تردّد العبارة المذكورة كما كان قد لقّنها ردعاً للخصوم المتعنّتين، فراق له المشهد فعمل فيه قصيدة سريانية.
ووردت الميامر باسمه منسوباً إلى أنطاكية لإقامته فيها وذُكِرَ أيضاً بهذه النسبة في مصحف موسوم بنخب الآباء مخطوط في القرن السابع.
وقال أغابيوس المنبجي أسقف منبج للروم الملكيّين الذي كان موجوداً حول سنة 940 في تاريخه المترجم بالعنوان: “وكان من العلماء في هذا الوقت (حوالي 422) مار اسحاق تلميذ مار أفرام وكان مقامه بأنطاكية. وله ميامر كثيرة على الأعياد والشهداء والحروب والغارات التي عرضت في ذلك الزمان وكان جنسه من أهل الرها.
وسنة 431 شهد مجمع أفسس المسكوني كما ورد في سلسلة المجامع، فاسحاق المسمّى بالأنطاكي هو هذا وليس هو الآمدي كما وهم المستشرقون. وهو ناظم قصيدة الزلزلة التي دمّرتْ أنطاكية عام 459 وشملتْ أغلب مدن سورية الساحلية. وقد أشار إليها في الميمر 28 فقال ما خلاصته: إنّ عدل الله تعالى وعطفه لم يبدّلا حالتنا. فعدله ساقنا إلى الذمّر والتشكّي، وعطفه أطمعنا في ارتكاب المعاصي. فاشتدّ سخطه علينا وجعل يبكّتنا بالزلازل وهزّات الأرض لعلّنا نرعوي. لكن الخطاة الذي نجوا من هول الزلزال أصرّوا على غيّهم ولم يتّعظوا بهلاك أهلهم وأصحابهم. إنّ الله العزيز رفع صوته وكلّمنا بلسان الزلزلة والخوف. غير أنّنا لم نصغ إليه. قوّض الله سبحانه بالزلزلة قصوراً شامخةً وصروحاً باذخةً وطمر سكّانها تحتها. فادّعى الأشرار الذين أفلتوا من غوائلها بأنّها إنّما حدثت عرضاً وصدفةً. ولم يعتقد إلاّ القليلون بأنّها قصاصاً إلهيًّا من المؤسف أنّ الأئمة يؤوّلون أعمال الله العادل القدير تأويلاً يلائم مشاربهم وأهواءهم كيما يظلّوا متقلّبين في جرائمهم وآثامهم. فالخليق بنا نحن المؤمنين أن نخاف هول الله القدير ونقمع أهواءنا ونتوب إليه التوبة النصوح.
وقد دبّج الأنطاكي قصيدتين في غزو بلدة بيت حور سنة 491، ولم يتوفّ سنة 460 في ما زعموا. وظاهر أنّ الآمدي لم يعش حتّى هذا الزمان، لأنّه من الثابت أنّه صحب مدّةً مار أفرام سنة 363 وقد ناهز العشرين في أقلّ تعديل، فتكون ولادته في حدود سنة 343 ولو بلغ المئة والسابعة عشرة من العمر لأشار هو أو غيره إلى ذلك، وهذا العلامة يعقوب الرهاوي أولى المؤرّخين بمعرفة أحواله.
وذاعت شهرة مار اسحاق في أواسط القرن الخامس، وامتاز بصفتين جليلتين هما تآليفه ورئاسته على الرهبان كما أثبت عنه تاريخ أخبار الرها الملخّص والمدقّق فقال: في السنة 763 للإسكندر (452م) اشتهر مار اسحاق المؤلّف ورئيس الدير.
وقد أشار مار اسحاق إلى مقامه الرئاسي في ميمره ال 35 يخاطب الكنيسة ما خلاصته: “ترى ما الذي شاهدته فيّ أيّتها الكنيسة حتّى جعلتني قيّماً على ذخائرك وأميناً على كنوزك؟ إنّي أقرّ بكوني طمّاعاً شرهاً حسوداً جسوراً، أعمالي تناقض تعاليمك. فقد خطفني الذئب وافترسني ولم يعد يسعني أن أحافظ على غنمك. لستُ مستأهلاً أن تلقي إليّ عصا الرئاسة لأنّ الثعالب نهبتني. لعمري كيف يتيسّر لي أن أفيد غيري أنا الذي لم أفتكر في فائدة نفسي الثمينة؟ علامَ أقمتني مرشداً ومعلّماً ورئيساً مع أنّي أحقر الجميع وآخر الكلّ؟
إنّ مثلي مثل حجل يصطاد بعضه بعضاً. فالحجل في قفصه يدعو الحجل أقرانه إليه. ويثير أولاد جنسه بصوته لتكون معه ومثله مسجونة في القفص. وإذا ما أتت لتساعده سقطت في الفخ نظيره. هكذا أنا الأثيم أدعو الأثمة إلى شبكة يسوع ليأتوا ويحتووا ضمنها
وصرّح مار اسحاق برئاسته على الرهبان كذلك في الميمر 59 (ص 512) قال: إنّ الإيمان المقدس أقامني رئيساً في عرسه وأولاني رتبة رفيعة وقال لي: امكثْ لديّ واشتغلْ معي وأنا أسدي لك أجرةً كافية.
يُعدّ الأنطاكي، كالآمدي أيضاً، من شعراء الطبقة الأولى لدى السريان ومِمّن جمع بين العبقرية والقريحة.
3- مار اسحاق الرهاوي (الثاني) 522
حكى مار يعقوب الرهاوي أنّ اسحاق هذا أيضاً كان أرثوذكسيًّا من إكليروس بيعة الرها. وقال ميخائيل الكبير وابن العبري أنّه كان رأساً لبعض الأديار. وكان في أوائل القرن السادس في أيّام بولس مطران الرها (510-522). وهو ينظم أشعاره مطابقةً للمعتقد الأرثوذكسي فحين عُزِل بولس عام 522، وقام مكانه الأسقف اسقلافيوس الملكي وطفق ينشر مذهبه، مالئه عليه اسحاق متقلّباً مع الزمان. ومضى منذئذٍ يقرض الشعر بما يؤيّد مذهبه النسطوري (أي الخلقيدوني) الجديد.
وهكذا تبيّن أنّه ينبغي التمييز بين ثلاثة إسحاقِين على الأقلّ. ولكن المؤرّخين والنساخ لم يراعوا هذه الفروقات فيما بعد، بل نسبوا إلى شخص واحد كلّ التآليف المصدّرة باسم اسحاق. ومن جملة هؤلاء، البطريرك السرياني العالم الفاضل يوحنّا بن شوشان (1058-1073) الذي جمع ما ينيف على ستّين 60 ميمراً من هذه التآليف في مجلّد واحد، وضمّها إلى ميامر مار أفرام الملفان، ومن تلك الميامر نسخة ثمينة تزيّن دار المطبوعات الفاتيكانية في رومة (رقم 120) ورد فيها ما تعريبه: كتاب ميامر مار اسحاق وعددها ستون ميمراً. انتهى نسخ هذا الكتاب الحاوي تعاليم حلوة أنشأها القدّيس مار اسحاق السرياني تلميذ مار زينوب الملفان تلميذ مار أفرام المغبوط. نقلها الكاتب عن نسخة مدقّقة كتبها مار يوحنّا البطريرك ابن شوشان. وعلّق عليها شروحاً في بعض الصفحات وانتهى من نساختها سنة 1521 للإسكندر (1210م). نسخها ابراهيم القسّيس ابن القسّيس يوسف من قرية بغدشية بضواحي ماردين قريبة من كفرتوت. وتمّت بساختها في دير مار دومط بطبياتا وهي قريبة في جنوبي ماردين.
بعض شذارت يراعه السيّال
إذا ما تصفّحنا ميامر مار اسحاق، أمكننا أن نلتقط منها نماذج رائعة في وصف العناية الربانية، وفضائل السيد المسيح ووالدته العذراء والقدّيسين والكنيسة. كما أنّ هناك أمثالاً وأوصافاً نادرة عن الإنسان والطبيعة وبعض الحيوانات.
لقد عدّد مار اسحاق الملفان بعض أعمال السيد المسيح مخلّص العالمين فوصفه بكونه إلهاً وملكاً ورأساً ومعلّماً وراعياً وطبيباً. وكثيراً ما وصف آياته وعجائبه الباهرة. ويا ما أحلى تشبيهه ذلك الفادي الحبيب بالنسر إشارةً إلى ما كتب موسى الكليم إذ قال: “كالنسر الذي يطير على عشّه ويرفّ على خرافه ويبسط جناحيه فيأخذها ويحملها على ريشه (تث 32/ 1). فكتب مار اسحاق يقول ما مفاده: تُرى ما الذي يُلجئ النسر وهو سابح في أجواء السماء أن يهبط من أعاليه إلى عشّ فراخه ليتعهّدها؟ فهو يضمّ جناحيه ويجمع ريشه ويسير في طريق مجهولة ريثما يصل إلى العشّ الضيق فيدخله ويحتضن فراخه ويغذّيها عاطفاً ويكابد الذلّ والهوان حبًّا بها.
فعلى هذا المنوال ترك يسوع الفادي سماواته الفسيحة وانحدر إلى الأرض الحقيرة وجمع جناحيه وريشه في مستودع العذراء الضيق. واحتمل الفقر والذلّ واضطجع في مذود حقير. ولقد لقّنتنا الكنيسة المقدّسة طريقه السموية الأولى ثمّ أعلنت لنا طريقه الثانية المحجبة في قدس الأقداس في بيوتات القربان الأقدس. أجل هو حبّه المفرط حمله أن يتعهّد بني البشر أولاده ويغذّيهم ويحرسهم. وهو عطفه الشديد اضطرّه كما اضطرّ النسر أن يتفقّد فراخه ويحتضنها ويُغذّيها (الميمر 58، ص 694-696).
وتجنّد مار اسحاق للدفاع عن سيدتنا مريم العذراء المغبوطة فقرّر في كتاباته أنّها هي أمّ الله حقًّا. وفنّد زعم نسطور الملحد وأشياعه. وقد سبق فصرّح بعقيدته هذه يوم حضر مجمع أفسس. ومن جملة ما كتبه في هذا الصدد قوله: إنّ المولود من الآب ميلاداً روحانيًّا وُلِد من العذراء ميلاداً جسديًّا عجيباً. فإذا أنكرت يا هذا ألوهيته تشكى منك الآب السماوي. وإن كفرت بناسوته سخطت عليك العذراء (ميمر 59، ص 722). وذكر الملفان اتّضاع العذراء وصبرها وصومها وصلاتها وعفافها، ووصفها وصفاً جميلاً مُسهَباً.
ثمّ قابل مار اسحاق تعليم آبائنا الرسل مع سيرة المسيحيين وسلوكهم فقال: “إنّنا نطالع كتب الرسل ورسائلهم لكنّنا لا نعمل طبقاً لأقوالهم ولا نقتدي بأعمالهم ونموذجهم. فالملوك خضعوا لهم ونحن ازدرينا بصحفهم. ناشدتكم الله قولوا لي: من منكم ترك ماله وتبع يسوع؟ من منا تنحّى عن أبنيته وادّخر له بيتاً في السماء؟ من منا تخلّى عن حقوله واكتفى بما يسدّ حاجته؟ من منّا زهد في كسوته طمعاً في الحصول على الحلّة السماوية؟ إن كنّا أبناء الرسل لزمنا أن نشابههم. فهم تركوا الشباك والأسماك بين الأمواج واقتنصوا الملوك للخلاص والحياة. أمّا نحن فما برحنا متشبّثين بمتاع الدنيا وأباطيلها.
وقد طالما حمل مار اسحاق حملات عنيفة على الرؤساء والمرؤوسين في زمانه. حتّى أنّك كلّما قرأت قصيدة من قصائده عثرتَ فيها على عبارات نصح وتوبيخ وتقريع يوجّهها إليهم. من ذلك قوله: “استأثر الرؤساء بالمجد الفارغ فقلّدوا وظيفة الكهنوت السامية رجالاً جهلة بسطاء حتّى أصبح عددهم زائداً على الحاجة. توفّرت الرتب والوظائف الكهنوتية وتفاقمت معها خطايا الرعاة. فمن الكهنة من ترك عزلته وراح يطوي القرى والدساكر يوزع الأسرار على من لا يستحقّها. ومنهم من أخذ ينقل القربان الأقدس في حقيبته ويذهب تائهاً شارداً في السهول والجبال. ومنهم من راح يتاجر بعظام القدّيسين. فالملك من عادته ألاّ يتوشّح بمنديله إلاّ مرّة في السنة. أمّا رعاة عصرنا فقد أخذوا يوشّحون كائناً من كان بالإسكيم المقدّس الذي نسجه الروح القدس. فيا للتشويش ويا لسوء التصرّف وبئس الاستهتار بالمناصب الكهنوتية المقدّسة!
وكثيراً ما تذرّع الملفان بذرائع فعّالة ليقرّع الأساتذة ويعنّف المعلّمين. وقد يستعير لسان التلميذ ليبكّت أستاذه على أعماله الشاذّة، فيقول: “إنك يا أستاذي علّمتني أن أطالع الكتب المقدّسة وأتروّى في معانيها. أمّا أنت فقد طويتها واستغنيت عن مطالعتها. حملتني أثقالاً باهظة واكتفيت أنت بالخفيف منها. لقنتني الفقر وتشبّثت أنت بالغنى. علّمتني ألاّ أهتمّ للغد واذخرت الذخائر لربوات السنين. أمرتني أن أفتكر في السماوات وصوبت أنت أفكارك نحو حقولك وكرومك. علّمتني أن أتّكل على الله الغني وأنت اتّكلتَ على الذهب. نصحتَني لأسير في الطريق الضيقة وسرتَ أنت في الطريق الرحبة. إنّ أعمالكَ يا معلّمي تناقض أقوالك. لأنّك تأمرني أن أستأثر بالأمور الأبدية وتشبّثتَ أنت بالشؤون الدنيوية.
واشتملتْ قصائد مار اسحاق على فوائد جمّة في الطب والأدوية والعقاقير وصنوف الأمراض (الميمر 27، ص 329). وله كذلك وصف بليغ في الإنسان منذ ولادته حتّى وفاته (ص 676). وهو يصف أيضاً أعضاء الإنسان وهيئته وقده ولسانه وعينيه وفمه وأذنيه وأسنانه وهلمّ جرًّا.
وكان مار اسحاق متضلّعاً من عالم الطيور والحيوانات كالحجل واليمام والسنونو والعصفور والنسر والطاووس والباشق واللقلق والكراكي وطبائع النمر واللبؤة والأسد والفيل والكركدان والدبور والنحل والنمل والبرغوث والبق والعنكبوت والسمك الخ… وهو يصف غرائزها وخواصّها وعاداتها ومؤتلفاتها.
ومن أجمل ما كتب عن العصفور (490-491) محرّضاً الراهب أن يقتدي به في محنته قوله: يلزمك أيّها الراهب أن تنسج على منوال العصفور في أعمالك. فالعصفور إذا ما طارده الباشق سارع توًّا إلى عوسجة ليحتجب ضمنها ويفلت من دهاء خصمه. فلا يكترث لما أصابه من ألم العوسج مهما نخر جسمه ونخسه واغترز فيه لأنّه بتلك الذريعة يُفلت من أنياب الباشق ومن الموت. فعلى هذا النحو يلزمك أيّها الراهب الورع أن تحتمل ما يعترضك من معاندة إخوتك وإهانتهم مهما كانت. فاحذر أن تترك صومعتك وإلاّ وقعت في فم الباشق الجهنمي وخسرت السعادة الأبدية. فالعصفور (ص 562) إذا وسّع عشّه تمكّن الباشق من الدخول إليه وافتراسه. والراهب إذا وسع باب صومعته عرّض نفسه لافتراس إبليس خصمه. فالأجدر أن تكون صومعة الراهب ضيقة فارغة لا تحوي إلاّ كفافه. وكما أنّ العصفور يدخل باب عشّه الضيق منحنيًا كذلك الراهب يلزمه أن يدخل باب صومعته منحنياً متّضعاً. قلْ لي أيّها الراهب الفقير الزاهد ما حاجتك إلى ثوب شتوي وثوب صيفي؟ ما حاجتك إلى حذاء للشتاء وآخر للصيف؟ والهفتاه، إنّ الرهبنة في عصرنا أصبحت تحاكي يقطينة يونان النبي. فهي لا تكاد تنبت حتّى تذوي وتذبل (الميمر 45).
وإليك أيضاً هذا الوصف الجميل الرائع الذي نظمه الملفان السرياني في النسر والسمكة على سبيل المناظرة (الميمر 41، ص 503)، قال: شاهدتُ سمكةً في نهر الفرات تعوم تارةً وطوراً تغوص. ورأيتُ نسراً في الجوّ يلاحظها ويترقّب الفرصة لينقضّ عليها ويبتلعها. وما إن لحظ النسر فريسته تعوم على سطح المياه حتّى شدّد جناحيه وشدّد عزائمه وهبط فوقها ونشب براثينه فيها. فتسلّحتْ إذ ذاك السمكة في معقلها بسلاحها المائي وانتزعت من النسر سلاحه. يا للمشهد الغريب العجيب. انقضّ النسر ليقتنص فاقتنص هو وخاب أمله. جعلت السمكة تنتف النسر وكادت تخنقه. واتّفق أنّ صيّاداً مرّ هناك فألقى شبكته وجعل يسحب النسر إلى البر مع السمكة. هكذا ندم النسر على تسرّعه وطمعه لأنّ براثينه تشبّثتْ في السمكة ولم يقوَ على الإفلات منها. فكانت عاقبة طمعه وبالاً عليه.
لتكن صلواته سوراً لنا آمين
:croes1: فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ :croes1:
صورة
صورة
أضف رد جديد

العودة إلى ”سير ومعجزات القديسين“