ربما نكون قد أخطأنا المكان ..!
لا ..لا .. فهناكَ إلتباسٌ ما في الأمر ...!
بهذه الأسئلة المحيّرة بدأنا نسأل بعضنا البعض ، ونحن لانزال
بداخل السيّارة ، مترددين مابين البقاء ، ومابين النزول ...!!!
حدث ذلك في إحدى أيام شهر شباط الباردة ...الساعة تشير إلى
السادسة إلاَّ ربع مساءً ...وهذا يعني أنه لم يبقى لدينا سوى خمسة
عشرة دقيقة على إبتداء طقس العماد الذي كنا مدعوّين إليه ...
الطفلة التي ستعُمّد هي من أباً سريانيّاً ، وأماً سويدية ....وهذا يعني
أن الحضور سيكون من الطرفين ...أما المكان المحدد كان إحدى
كنائسنا السريانيّة الأرثوذكسيّة في ضاحية من ضواحي ستوكهولم .
ففي الكنيسة ستتم مراسيم العماد ، أما الأحتفال بهذه الفرحة سيكون
في مكانٍ آخر،هكذا كان مقرراً ، ووفق هذا المخطط وجِّهت بطاقات الدعوة للمدعوين..
سألتُ زوجتي ونحن لانزال بداخل السيّارة التي كان يتقدم بها إبني
بصعوبة نحو الأمام لشدة الأزدحام ... الشيء الذي يوحي بوجود حفلة
زفاف أو ماشابه ذلك في ذات الكنيسة ..لهذا سألتُ زوجتي : أأنتي متأكدة
من صحة المجيء ؟ أليسَ من المحتمل قد أتينا إلى كنيسة أخرى ؟
سألتها وأنا أنظر من خلال زجاج السيارة الأمامي إلى وجوه الناس
المتجمهرة أمام مدخل الكنيسة وكأنها على مايبدو بأنتظار موكب العرائس ....
تمعَّّنتُ جيداً علني ألمح بين الوجوه وجهاً قد صادفته قبل ذلك
ولكن دون جدوى ..الكل غرباءٌ عليَّ ....حتى النسوة الواقفات فأغلبهن
محجَّبات ..وهذا مايؤكّد على أننا في المكان الخطأ ...
أتصلتْ أبنتي لتقول : أين أنتم يابابا ؟
قلتُ : نحن أمام مدخل الكنيسة ...ولكن على ماأظن قد أخطأنا المكان ..!
قالتْ : ونحن أيضاً هُنا يابابا ..وذات الأسئلة تحيّرنا ..!
وبينما هي تكلمني لمحتُ من خلال المرآة الداخلية للسيارة ، أحّد الأشخاص المقرّبين ...
فتحتُ باب السيارة ونزلت لأستفسر منه
وإبنتي لازالت معي عبر الهاتف ... فبعد أن تأكدتُ منه على تواجدنا
في المكان الصحيح ..ورحتُ مؤكداً عليه لإبنتي ...ركنا سياراتنا في
مكانٍ قريب ... ودخلنا الكنيسة .
الساعة الآن تشير إلى السادسة تماماً ، الموعد المقرر لبدأ صلاة
المعموديّة ...كل شيءٍ يوحي بالطمأنينة ...ثمة أصوات ، وضجيج خفيف
يأتي من الطرف الآخر حيث يحتفل الأتراك بفرحة كتب الكتاب والدخلة
لكن لايهم فالوضع لازال مقبولاً....هناك حاجزاً بيننا وبينهم ..عبارة
عن باب ( أوكرديون – سحّاب ) يُفتح أوقات الصلاة أيام الآحاد ..ويغلق
بعدذلك لإقامة الحفلات ...
أعطى الكاهن إشارة الوقوف لبدأ الصلاة ...وهنا حدث ما لم نكن نتوقعه...!
فبمجرّد أن فتح الكاهن فمهُ ليقول : بأسم الأب والأبن والروح
القدس ......فُتحت علينا أبواب الموسيقى الصاخبة من الجهة الأخرى ..
والفرق كبير بين جهتنا وجهتهم ...الكاهن من طرفنا يُصلي دون مكبرات
للصوت .. أما من عندهم فأجهزة الصوت كفيلة لهز المكان هزّاً..
وبإستطاعتها الوصول إلى مسافة آلاف الأمتار..ونحن لانبعد عنها
سوى متراً واحداً .. نحنُ عددنا بالعشرات ..وهم عددهم بالمئات ...
إذاً مالعمل ؟ ... ذمَّ الكاهن شفتيه ، وقطّبَ مابينَ حاجبيه ، وأشار بيده إلى
الشخص القائم بخدمة الكنيسة ، بحركة توحي كي يذهب للحال
ويقول لهم ليخفضوا صوت الموسيقى قليلاً ولو لعشرات الدقائق حتى ننتهي من الصلاة ...
لم يكن الأمر يتطلب للذهاب إليهم ، لأن المسافة التي تفصلنا ليست ببعيدة
مجرّد بضعة خطوات وتكون هناك....ولكن كما ذهبَ ...رجع.. دون فائدة
كيف تطلب منهم أيها الأب الفاضل هكذا طلب وأنتَ سيد العارفين ...
ففي الوقت الذي بدأتَ فيه أنتَ إقامة الصلاة ...في نفس الوقت كانوا هم
أيضاً يستعدون لأستقبال العريس والعروسة ... ومن حق موسيقاهم أن
ترتفع لطالما قد أستأجروا القاعة ودفعوا المبلغ المطلوب ...نعم رفضوا .
أستمر الكاهن الفاضل في الصلاة ...بعد أن رفع درجة صوته على معيارها الأخير ..
لكي نستطيع سماع ما يقول ..ولكن دون جدوى ..فالموسيقى القادمة من الطرف الآخر
تستطيع أن تغطي على حارة بأكملها ، فكيفَ وهي بيننا .. ولكن لم تتوقف القصة على
الموسيقى فحسب ..! إنما ماحدث ربما كان أكثر إندهاشاً من ذلك ..
كيف نسينا الوقت ....!! وكيف خانتنا ذاكرتنا ...!!
ألم نقل بأنها تشير إلى السادسة مساءً، وهذا يعني موعد الصلاة ...!
( حيِّ على الصلاة .....حيِّ على الفلاح )
فيظهر أن بعض المدعوين من الجانب التركي كانوا من خلفيّة متدينة
وهذا يعني بالنسبة لهم إقامة الصلاة أينما وجدوا عند حلول موعدها
ولكن مالعمل ؟ فالطقس في الخارج بارداً جداً ، والأرض مكسوّة بالثلج القابع
فوق طبقة سميكة من الجليد.....والقاعة في الداخل محتشدة بالناس
وتعج بالصخب .. وداخل الكنيسة نحن موجودون .. وعلى الجهة اليسرى
من معبر الكنيسة لايوجد سوى دورات المياه .. إذاً لم يبقى لديهم مجال
سوى عند المكان المخصص لتعليق الثياب ..!
في تلك الجهة وأمام تمثال السيدة العذراء إفترش عدداً من المؤمنين الأرض ...
وأقاموا الصلاة ..ساجدين ... راكعين ...واقفين.. خاشعين...!!!
ولكن هل يستطيع أحّداً إيقافهم .. أو نهرهم ؟ وبأية حجّةٍ ؟ بالطبع لا !!
فلو قلت لهم ممنوع ..سيجيبوكَ حتماً قائلين: أليس هذا بيت الله ؟.. فهل
تمنعون الصلاة في بيتهِ ؟ ..
وإذا قلت لهم إنكم تسجدون أمام تمثال العذراء الموضوع على الطاولة أمامكم ..
وهذا لا يليق ..فربما أجابوكَ وقالوا: ونحن أيضاً نكرِّم العذراء
فهي عندنا سيدة نساء العالمين .. وذكرها في قرآننا يفوق الوصف .. ولها
فيه سورة خاصة ( سورة مريم ) .. وهي الإمرأة الوحيدة المذكورة فيه ..
على كلٍ فهذا لم يحدث لأننا تركناهم وشأنهم .. يكملون صلاتهم ...
أنتهت مراسيم طقس العماد المقدَّس ( وبالحقيقة لانعلم كيف بدأت وكيف أنتهت .!)
ولكن ماأعلمه عندما تقدمتُ من الكاهن لأشكره ..كان قد فقد القسم الأكبر
من صوته...
تقدّم منه أحّد السويديين المقربين من ( أم المعتمدة ) وقال: هذا يعتبر أنتهاك لحق
الآخر أيها المحترم .. كيف لي أن أسجّل على شريط الفيديو
طقس المعمودية الذي ونحنُ نرتِّب له منذ أسابيع عديدة ..الذي ظهر منه
مجرّد صوراً هيمنت عليها الموسيقى التركيّة ..أتريدني أن أنظر إليها
وفي نفس الوقت أستمع إلى الموسيقى والأغاني التركيّة ؟ لا أيها المحترم
إن ما حصل الآن لايقبل أبداً الأعذار ...!!
أجاب الكاهن : وأنا أيضاً متضايقاً مثلكم عمّا حدث ..ولكن لستُ أنا من
يقرر ..ولستُ أنا المسؤول ..
أجابه آخر مقرّب ( لوالد المعتمدة ) وقال : إذاً من المسؤول ياأبونا ؟
قال : المجلس الملي ...وبإستطاعتكم أن تكلموه ..
تقدّم آخر وقال : ولكن ماحدث اليوم لم يكن المرة الأولى .. والمجلس
الملي ينفي مسؤوليته ويقول : المسؤول هو متعهّد القاعة ..فهو يُدخل إليها
ما هبَّ ودبَّ ...
قال آخر : ولكن المتعهّد يقول : إنهم يقبضون منيّ كل شهراً مبلغاً مرقوماً
فكيف سأدفع لهم دون إقامة مثل هذه الحفلات ؟ !
تقدمت سيدة وقالت : ولكن حرام .. فهذا مكاناً مقدّساً ..
ردَّ عليها آخر وقال : ولكن لم يتم تقديسهُ بعد ..
أجابت ذات السيدة وقالت:ألم يكفي ظهورات العذراء فيه ليصبح مقدساً؟
نهض آخر كان جالساً وقال : ياجماعة بصريح العبارة يقولون : الكنيسة
جديدة وعليها ديونات كثيرة ..لهذا السبب كانوا مرغمين أن يفعلوا ذلكْ..!
قالت أخرى : صدقاً لو تحولت هذه الكنيسة عندما ظهرت فيها العذراء عليها
السلام إلى ( مزارٍ ) لفُتحت عليها أبواب الرحمة والمساعدة أكثر .!
جاء صوتاً آخر وقال : لقد تركت العذراء المكان ..ولن تعود مرّة أخرى..
صوتاً آخر أخترق المجموعة وقال : لا ..لا .. أنا واثقٌ ستعود ...
دمدمَ آخر وقال : المسيح حمل السوط وبدأ يضرب الباعة والصيارفة
عندما تحوّل بيت أبيه إلى مغارة للصوص ..
ضربت أخرى كفاً بكفْ ..
تداخلت الأصوات بعضها ببعض ...أطلق أحدّهم حسرة عميقة وتنهّد ..
قال آخر : الله يستر ..! سُمِعَ صوت زمامير السيارات في الخارج معلنة
وصول العريس والعروس ...رنَّ جرس هاتفي .. أجبتُ ..كان أبني ليقول
لي: أين بقيت يابابا ..نحنُ ننتظرك في السيّارة ..
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد