العاشق والمعشوق

لم يخطر ببالها أبداً ، عندما ملأت زجاجة الماء البلاستيكيّة وقامت
بتثبيتها في مكانها على الجانب الأيمن من القفص الحديدي الصغير
الذي يعيش بداخله منذ بضعة سنوات العاشقان السعيدان ( شادي وتغريد)
شادي بلونه البرتقالي الممزوج بألوان الشفق والغسق ، وقليلاً من
اللون الأصفرالهادىء ، مع بعض التداخلات الفستقيّة . وتغريد بلونها
الفيروزي الجميل ، مع تموّجات جميلة من اللون الأزرق البحري..
ففي ذاك الصباح الربيعي عندما أستيقظت ربّة البيت ، وبدأت بتجهيز نفسها
وحزم أمتعتها ، إستعداد للسفر ، الذي سيدوم قرابة أسبوعين
حيث ستكون فيهم بعيدة عن منزلها الذي تقطنه مع إبنها البالغ عشرون
عاماً ونيّف .. لهذا قامت بجولة تفقديّة سريعة داخل المنزل ، لتطمئن على
كل شيء قبل مغادرتها ، حيث سيقوم إبنها لاحقاً بإستلام المهمّة ...
فسقت الورود والخضار التي رأت إنها بحاجة إلى ذلك ، ثمَّ تقدمت نحو
قفص العاشقان ، فأطلقا لها سويّة تغريدة طويلة ، تدلُ على الإنشراح
والفرح ، ورفرفا لها بجناحيهما ، ترحيباً بقدومها كالمعتاد ، فهكذا كانا يفعلان
عند رؤيتها ، وكإنهما كانا يعرفان جيّداً بأنها مصدر عيشهم
ومورد رزقهم ، والمديرة الوحيدة لهم ، فهي تستحق منَّهم هذه التغريدة
وهذا الإستقبال المهيب .
ألقت ربّة البيت نظرة على العلبة التي يوضع بها أكل العاشقان ، فوجدتها
ناقصة ، فأخرجتها وقامت بتعبئتها جيّداً ، وأرجعتها ثانية إلى مكانها ..
ثم أنتزعت زجاجة الماء من مكانها ، وغسلتها ، وهي تدندن بينها وبين
نفسها ، أغنية لفيروز ( راجعين يا هوى راجعين ) ... بعدئذٍ ملأتها من جديد ماءً نقيّاً
ثمَّ أعادتها إلى موضعها (وهنا كان الغلط الذي أودى إلى المصيبة الغير متوقِّعة )..!!.
كانت زجاجة الماء من النوع البلاستيكي الشفَّاف ، يرتبط بها من الأسف
أنبوباً مرناً ، يقوم بإيصال المياه بإنتظام إلى الحوض المتمركز داخل قفص العاشقان ...
وتستطيع أن تقول بأنّه كان صلة الوصل بين الزجاجة والحوض
فكلما نقصت المياه في الحوض ، تدفقت مكانها مياه جديدة
من الزجاجة عن طريق هذا الأنبوب الوريدي إلى الحوض .. فعندما قامت
ربّة المنزل بتثبيت الزجاجة في موضعها ، لم تلحظ أبداً ألتواء الأنبوب
في أسفل الزجاجة ، الأمر الذي أدَّى إلى منع إيصال الماء إلى الحوض.
سافرت الأم بعد أن أعطت تعليماتها إلى إبنها ، وأوصته جيدّاً على البيت
وخاصة على شادي وتغريد ، اللذين لهما مكانة عزيزة في قلبها ..
أنقضى الأسبوع الأول على غياب الأم ...كل شيءٍ يبدو على ما يرام ..
هكذا بدى للإبن المكلّف بالعناية والتدبير من قِبل أمَّه .. كان يسقي الزهور
والخضار بإنتظام ، ويلقي بنظرة على وضع العاشقان ، فيرى علبة الأكل
ليست بحاجة إلى المزيد .. وينظر إلى زجاجة المياه ، فيراها لا تزال مملؤة
فكان يطمئن نفسه بذلك ، ويطلق تصفيرة خفيفة ، مداعباً بها
العاشقان اللذان لم يبديان أيُّ تجاوب لهذه المداعبة ، بل مكثا ملتصقان
جنبٍ إلى جنب ، وعلامات الحزن واليأس بادية عليهما ...! ولكن أنَّى
له أن يعرف السبب ..فكان يقول بينه وبين نفسه : ربما هما تعِبان أو حزينان
على فراق أمّي ، ولعلّهما يستفقدانها ؟!... أنَّى له أن يعرف
بأنهما في طريقهما إلى الهلاك ، وإنَّ أحشائهما تنشف من الداخل
رويداً رويداً دون ماء .. فهما يموتان موتاً بطيئاً ، ونهايتهما أقتربت
لا محالة ، ولم يبقى إلاَّ القليل لإنفصالهما عن بعضهما البعض ، وسينتهي
كل شيءٍ ، ستنتهي العشرة الطيِّبة ، وسينتهي العشق وتنتهي المحبّة والمودَّة ..
يالها من ساعات وداع قاسية ومريرة ..! فالماء في الزجاجة
ينضح أمام أعينهما ، وهما يموتان عطشاً .
كان من عادة شادي وتغريد في كل صباح مع بزوغ الفجر ، تنطلق
حنجرتهما لتغرِّد وتشدو بأحلى وأجمل الألحان الشجيّة المتنوعة ..
حتَّى أنّه في بعض الأحيان كان الشاب يتضايق من شدوهما لأنّهما كانا يوقظانه
من النوم في الوقت الذي كان يطيب له النوم ، فكان يطلب
من أمّه أن تفعل شيئاً وتسكتهم ، فكانت تغطيّهم بشرشف لتخدعهم
وتوهمهم على أنَّ الوقت لا زالَ ليلاً .
لم يكن من عادة الشاب أن يستيقظ باكراً كما أسلفنا ، ولكن في هذا
الصباح بالذات ، كأنَّ أحّداً ما كان يناديه ويقول : أستيقظ ... أستيقظ
يجب أن تستيقظ ..!
نهض الشاب من فراشه مذعوراً ومرتبكاً ، نظر حوله علّه يجد مصدر
الصوت ولكن دون جدوى ، فتأكد بأنّها لم تكن إلاَّ أضغاث أحلام مزعجة
شعر بأنَّ ريقه قد نشفَ ، وهو بحاجة إلى قليلاً من الماء ، أزاح
اللحاف ، وأتجه نحو المطبخ ليشرب ، وبمجرّد دخوله ، أحسَّ
وكأنَّ شيئاً غير أعتياديّاً يحدث ..! أجل إنّه الصمت الرهيب الذي
يهيمن على المكان الذي ألِفه دوماً بالحركة والحيويّة والتغريد
والأصوات الشجيّة المنبعثة من داخل القفص حيث العاشقان
السعيدان ( شادي وتغريد) يعيشان ..!
يا إلاهي .. يا إلاهي .. رددها الشاب وهو يتراجع إلى الوراء ..
ربما هي المرّة الأولى في حياته يرى بها مثل هذا المشهد ..!
أجل ..فعندما نظر الشاب داخل القفص ليتفقّد حالة العاشقان
هاله المشهد المرعب والمؤلم والحزين ، الذي صدمه وأرعبه ..
كان شادي في تلك اللحظة مستلقياً على ظهره ، متخشِّباً ، فاقداً
للحركة ، قد أمالَ برأسه إلى الجهة اليمنى ، قبل أن يفارق الحياة..
أمّا على الجهة اليمنى ، فكانت ( تغريد ) ترقد بجانبه وقد أفردت
عليه جناحها ، وهي تنهج بحركة خفيفة تدل على أنها في حالة سيِّئة
جدّاً ، ولكنها لاتزال على قيد الحياة ، تصارع الموت .
يالها من مصيبة .. قالها الشاب .. فهي المرّة الأولى التي يقف بها
أمام الموت وجهاً لوجه ..! ماذا سيفعل ؟ وكيف سيتصرَّف ؟
هرع إلى سمّاعة الهاتف ، وأتصل بأخاه الأكبر وقال : ألحقني
ياأخي ، مصيبة كبيرة قد حلّت في البيت ...!!
لم تكن المسافة بعيدة بين المنزلين .. دقائق معدودات ، وكان
الأخ الأكبر قد وصل ، وفرائصه مرتعدة ..
- ماذا حصل ؟ هل أنتَ بخير ؟ قالها الأخ الأكبر ..
- نعم يا أخي أنا بخير .. ولكن أنظر ( مشيراً بيده نحو قفص العاشقان )
تقدّم الأخ الأكبر نحو القفص ونظر إلى المشهد المأساوي بداخله ، ثمَّ أطلق حسرة
أسف وقال- موجهّاً الكلام إلى أخاه الأصغر- : كيف حصل
ذلك ولماذا ؟ وماذا سنقول لأمِّنا عندما تعود من السفر ؟
- لاأعلم ياأخي ؟ كان كل شيءٍ على مايرام .. فالماء عندهم والأكل لديهم
وعلى ماأظن لم ينقصهم أيّة حاجة ، ولستُ أعلم السبب ..!
كان السبب واضحاً وجليّاً .. فعندما تمعَّن الأخ الأكبر داخل القفص ،
لاحظ مباشرة جفاف حوض الماء ، وأكتشف الخطأ الذي أودى بحياة شادي
ولكن معشوقته تمَّ إنقاذها في اللحظات الأخيرة ...
قبل عودة الأم من السفر ، كان الأخوين قد بذلا قصارة جهدهما حتى تمكنا
من شراء ( عاشقاً جديداً ) يحمل نفس صفات وملامح شادي من حيث اللون والمظهر
ووضعوه داخل القفص مع تغريد ، أملاً منهم أن لاتلاحظ أمَّهم شيئاً
ولا تدري ماذا حصل ..! ولكن هذه الخدعة لم تدوم إلاّ ساعات قليلة على وصولها ..
يقولون: ( العِشرة تلعب دورها ) فمن خلال العِشرة الطويلة التي عاشوها
سويّة ، ومن خلال الإلفة التي جمعتهم طيلة هذه المدّة ، والتي جعلتها
تمييز أصواتهم من بين مئات الأصوات ، ومعرفتهما عن طريق
حركاتهما وملامحهما ، وغنجهما ودلعهما ، وخصوصاً عند رؤيتهما لها ..
تمكنت الأم من إكتشاف اللعبة ، فأعترف لها الأولاد بكل شيء..
ظلت تغريد أياماً عديدة منزوية وحيدة ، لاتأكل إلاَّ القليل ، ولا تشرب
إلاَّ القليل ، تبدوعليها علامات الحزن والقنوط واضحة على فقدانها
عشيقها شادي ...أمّا شادي الجديد ، فكم حاول مراراً أن يتقرّب
إليها ، ولكنها كانت ترفضه وتنهره ، وهو يتحلّى بالصبر والإنتظار
وكأنه كان يقدِّر ظروفها ، ومن يعلم فربما تكلّمت معه بلغتهم وأعلمته
السبب ، فكان المسكين يسكت ، وبدلاً من أن يغرِّد كان يثغو ويخور ..
من قال بأنَّ الحيوانات لاتعرف الواجب والأصول فهو مخطئاً .. !
بعد مرور بضعة أشهر على رحيل شادي ، وتغريد في حالة حزنٍ وحداد
قررت أخيراً العودة إلى حياتها الطبيعيّة ، بعد أن أكملت واجبها تجاه من
فقدته وقطعت الأمل برجوعه .. ورأت أنَّ لابدَّ للحياة أن تستمر ..
أستيقظت العائلة الصغيرة في إحدى الصباحات الباكرة ، على أصوات
عالية صدَّاحة منبعثة من المطبخ .. فهرعت الأم وإبنها إلى المكان
ليستطلعا الخبر ..
في تلك اللحظة ، وفي داخل القفص الصغير ، كانت تقام مراسيم وطقوس خاصة
تعبيِراً عن بداية قصّة عشق جديدة بين شادي وتغريد ...
كان هو يشدو ويرفرف بجناحيه ، وكانت هي تغرِّد وتقترب إليه .
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد
[/size]
لم يخطر ببالها أبداً ، عندما ملأت زجاجة الماء البلاستيكيّة وقامت
بتثبيتها في مكانها على الجانب الأيمن من القفص الحديدي الصغير
الذي يعيش بداخله منذ بضعة سنوات العاشقان السعيدان ( شادي وتغريد)
شادي بلونه البرتقالي الممزوج بألوان الشفق والغسق ، وقليلاً من
اللون الأصفرالهادىء ، مع بعض التداخلات الفستقيّة . وتغريد بلونها
الفيروزي الجميل ، مع تموّجات جميلة من اللون الأزرق البحري..
ففي ذاك الصباح الربيعي عندما أستيقظت ربّة البيت ، وبدأت بتجهيز نفسها
وحزم أمتعتها ، إستعداد للسفر ، الذي سيدوم قرابة أسبوعين
حيث ستكون فيهم بعيدة عن منزلها الذي تقطنه مع إبنها البالغ عشرون
عاماً ونيّف .. لهذا قامت بجولة تفقديّة سريعة داخل المنزل ، لتطمئن على
كل شيء قبل مغادرتها ، حيث سيقوم إبنها لاحقاً بإستلام المهمّة ...
فسقت الورود والخضار التي رأت إنها بحاجة إلى ذلك ، ثمَّ تقدمت نحو
قفص العاشقان ، فأطلقا لها سويّة تغريدة طويلة ، تدلُ على الإنشراح
والفرح ، ورفرفا لها بجناحيهما ، ترحيباً بقدومها كالمعتاد ، فهكذا كانا يفعلان
عند رؤيتها ، وكإنهما كانا يعرفان جيّداً بأنها مصدر عيشهم
ومورد رزقهم ، والمديرة الوحيدة لهم ، فهي تستحق منَّهم هذه التغريدة
وهذا الإستقبال المهيب .
ألقت ربّة البيت نظرة على العلبة التي يوضع بها أكل العاشقان ، فوجدتها
ناقصة ، فأخرجتها وقامت بتعبئتها جيّداً ، وأرجعتها ثانية إلى مكانها ..
ثم أنتزعت زجاجة الماء من مكانها ، وغسلتها ، وهي تدندن بينها وبين
نفسها ، أغنية لفيروز ( راجعين يا هوى راجعين ) ... بعدئذٍ ملأتها من جديد ماءً نقيّاً
ثمَّ أعادتها إلى موضعها (وهنا كان الغلط الذي أودى إلى المصيبة الغير متوقِّعة )..!!.
كانت زجاجة الماء من النوع البلاستيكي الشفَّاف ، يرتبط بها من الأسف
أنبوباً مرناً ، يقوم بإيصال المياه بإنتظام إلى الحوض المتمركز داخل قفص العاشقان ...
وتستطيع أن تقول بأنّه كان صلة الوصل بين الزجاجة والحوض
فكلما نقصت المياه في الحوض ، تدفقت مكانها مياه جديدة
من الزجاجة عن طريق هذا الأنبوب الوريدي إلى الحوض .. فعندما قامت
ربّة المنزل بتثبيت الزجاجة في موضعها ، لم تلحظ أبداً ألتواء الأنبوب
في أسفل الزجاجة ، الأمر الذي أدَّى إلى منع إيصال الماء إلى الحوض.
سافرت الأم بعد أن أعطت تعليماتها إلى إبنها ، وأوصته جيدّاً على البيت
وخاصة على شادي وتغريد ، اللذين لهما مكانة عزيزة في قلبها ..
أنقضى الأسبوع الأول على غياب الأم ...كل شيءٍ يبدو على ما يرام ..
هكذا بدى للإبن المكلّف بالعناية والتدبير من قِبل أمَّه .. كان يسقي الزهور
والخضار بإنتظام ، ويلقي بنظرة على وضع العاشقان ، فيرى علبة الأكل
ليست بحاجة إلى المزيد .. وينظر إلى زجاجة المياه ، فيراها لا تزال مملؤة
فكان يطمئن نفسه بذلك ، ويطلق تصفيرة خفيفة ، مداعباً بها
العاشقان اللذان لم يبديان أيُّ تجاوب لهذه المداعبة ، بل مكثا ملتصقان
جنبٍ إلى جنب ، وعلامات الحزن واليأس بادية عليهما ...! ولكن أنَّى
له أن يعرف السبب ..فكان يقول بينه وبين نفسه : ربما هما تعِبان أو حزينان
على فراق أمّي ، ولعلّهما يستفقدانها ؟!... أنَّى له أن يعرف
بأنهما في طريقهما إلى الهلاك ، وإنَّ أحشائهما تنشف من الداخل
رويداً رويداً دون ماء .. فهما يموتان موتاً بطيئاً ، ونهايتهما أقتربت
لا محالة ، ولم يبقى إلاَّ القليل لإنفصالهما عن بعضهما البعض ، وسينتهي
كل شيءٍ ، ستنتهي العشرة الطيِّبة ، وسينتهي العشق وتنتهي المحبّة والمودَّة ..
يالها من ساعات وداع قاسية ومريرة ..! فالماء في الزجاجة
ينضح أمام أعينهما ، وهما يموتان عطشاً .
كان من عادة شادي وتغريد في كل صباح مع بزوغ الفجر ، تنطلق
حنجرتهما لتغرِّد وتشدو بأحلى وأجمل الألحان الشجيّة المتنوعة ..
حتَّى أنّه في بعض الأحيان كان الشاب يتضايق من شدوهما لأنّهما كانا يوقظانه
من النوم في الوقت الذي كان يطيب له النوم ، فكان يطلب
من أمّه أن تفعل شيئاً وتسكتهم ، فكانت تغطيّهم بشرشف لتخدعهم
وتوهمهم على أنَّ الوقت لا زالَ ليلاً .
لم يكن من عادة الشاب أن يستيقظ باكراً كما أسلفنا ، ولكن في هذا
الصباح بالذات ، كأنَّ أحّداً ما كان يناديه ويقول : أستيقظ ... أستيقظ
يجب أن تستيقظ ..!
نهض الشاب من فراشه مذعوراً ومرتبكاً ، نظر حوله علّه يجد مصدر
الصوت ولكن دون جدوى ، فتأكد بأنّها لم تكن إلاَّ أضغاث أحلام مزعجة
شعر بأنَّ ريقه قد نشفَ ، وهو بحاجة إلى قليلاً من الماء ، أزاح
اللحاف ، وأتجه نحو المطبخ ليشرب ، وبمجرّد دخوله ، أحسَّ
وكأنَّ شيئاً غير أعتياديّاً يحدث ..! أجل إنّه الصمت الرهيب الذي
يهيمن على المكان الذي ألِفه دوماً بالحركة والحيويّة والتغريد
والأصوات الشجيّة المنبعثة من داخل القفص حيث العاشقان
السعيدان ( شادي وتغريد) يعيشان ..!
يا إلاهي .. يا إلاهي .. رددها الشاب وهو يتراجع إلى الوراء ..
ربما هي المرّة الأولى في حياته يرى بها مثل هذا المشهد ..!
أجل ..فعندما نظر الشاب داخل القفص ليتفقّد حالة العاشقان
هاله المشهد المرعب والمؤلم والحزين ، الذي صدمه وأرعبه ..
كان شادي في تلك اللحظة مستلقياً على ظهره ، متخشِّباً ، فاقداً
للحركة ، قد أمالَ برأسه إلى الجهة اليمنى ، قبل أن يفارق الحياة..
أمّا على الجهة اليمنى ، فكانت ( تغريد ) ترقد بجانبه وقد أفردت
عليه جناحها ، وهي تنهج بحركة خفيفة تدل على أنها في حالة سيِّئة
جدّاً ، ولكنها لاتزال على قيد الحياة ، تصارع الموت .
يالها من مصيبة .. قالها الشاب .. فهي المرّة الأولى التي يقف بها
أمام الموت وجهاً لوجه ..! ماذا سيفعل ؟ وكيف سيتصرَّف ؟
هرع إلى سمّاعة الهاتف ، وأتصل بأخاه الأكبر وقال : ألحقني
ياأخي ، مصيبة كبيرة قد حلّت في البيت ...!!
لم تكن المسافة بعيدة بين المنزلين .. دقائق معدودات ، وكان
الأخ الأكبر قد وصل ، وفرائصه مرتعدة ..
- ماذا حصل ؟ هل أنتَ بخير ؟ قالها الأخ الأكبر ..
- نعم يا أخي أنا بخير .. ولكن أنظر ( مشيراً بيده نحو قفص العاشقان )
تقدّم الأخ الأكبر نحو القفص ونظر إلى المشهد المأساوي بداخله ، ثمَّ أطلق حسرة
أسف وقال- موجهّاً الكلام إلى أخاه الأصغر- : كيف حصل
ذلك ولماذا ؟ وماذا سنقول لأمِّنا عندما تعود من السفر ؟
- لاأعلم ياأخي ؟ كان كل شيءٍ على مايرام .. فالماء عندهم والأكل لديهم
وعلى ماأظن لم ينقصهم أيّة حاجة ، ولستُ أعلم السبب ..!
كان السبب واضحاً وجليّاً .. فعندما تمعَّن الأخ الأكبر داخل القفص ،
لاحظ مباشرة جفاف حوض الماء ، وأكتشف الخطأ الذي أودى بحياة شادي
ولكن معشوقته تمَّ إنقاذها في اللحظات الأخيرة ...
قبل عودة الأم من السفر ، كان الأخوين قد بذلا قصارة جهدهما حتى تمكنا
من شراء ( عاشقاً جديداً ) يحمل نفس صفات وملامح شادي من حيث اللون والمظهر
ووضعوه داخل القفص مع تغريد ، أملاً منهم أن لاتلاحظ أمَّهم شيئاً
ولا تدري ماذا حصل ..! ولكن هذه الخدعة لم تدوم إلاّ ساعات قليلة على وصولها ..
يقولون: ( العِشرة تلعب دورها ) فمن خلال العِشرة الطويلة التي عاشوها
سويّة ، ومن خلال الإلفة التي جمعتهم طيلة هذه المدّة ، والتي جعلتها
تمييز أصواتهم من بين مئات الأصوات ، ومعرفتهما عن طريق
حركاتهما وملامحهما ، وغنجهما ودلعهما ، وخصوصاً عند رؤيتهما لها ..
تمكنت الأم من إكتشاف اللعبة ، فأعترف لها الأولاد بكل شيء..
ظلت تغريد أياماً عديدة منزوية وحيدة ، لاتأكل إلاَّ القليل ، ولا تشرب
إلاَّ القليل ، تبدوعليها علامات الحزن والقنوط واضحة على فقدانها
عشيقها شادي ...أمّا شادي الجديد ، فكم حاول مراراً أن يتقرّب
إليها ، ولكنها كانت ترفضه وتنهره ، وهو يتحلّى بالصبر والإنتظار
وكأنه كان يقدِّر ظروفها ، ومن يعلم فربما تكلّمت معه بلغتهم وأعلمته
السبب ، فكان المسكين يسكت ، وبدلاً من أن يغرِّد كان يثغو ويخور ..
من قال بأنَّ الحيوانات لاتعرف الواجب والأصول فهو مخطئاً .. !
بعد مرور بضعة أشهر على رحيل شادي ، وتغريد في حالة حزنٍ وحداد
قررت أخيراً العودة إلى حياتها الطبيعيّة ، بعد أن أكملت واجبها تجاه من
فقدته وقطعت الأمل برجوعه .. ورأت أنَّ لابدَّ للحياة أن تستمر ..
أستيقظت العائلة الصغيرة في إحدى الصباحات الباكرة ، على أصوات
عالية صدَّاحة منبعثة من المطبخ .. فهرعت الأم وإبنها إلى المكان
ليستطلعا الخبر ..
في تلك اللحظة ، وفي داخل القفص الصغير ، كانت تقام مراسيم وطقوس خاصة
تعبيِراً عن بداية قصّة عشق جديدة بين شادي وتغريد ...
كان هو يشدو ويرفرف بجناحيه ، وكانت هي تغرِّد وتقترب إليه .
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد