ديريك ياشهقة الرّوح ـ [صبري يوسف]

أضف رد جديد
صبري يوسف
عضو
عضو
مشاركات: 26
اشترك في: السبت مايو 15, 2010 7:50 am

ديريك ياشهقة الرّوح ـ [صبري يوسف]

مشاركة بواسطة صبري يوسف »

ديريك يا شهقة الروح!
[/color][/size]

نص
[/color][/size]

طفرَتْ دموع ساخنة من عينيّ، وأنا ألقي نظرة على صورٍ من شوارعِ ديريك، بلدتي الّتي ترعرعتُ فيها، وتبيّن لي كم أنا قاسٍ على نفسي وأهلي وأصدقائي وشوارعي وأزقّتي الترابيّة التي تبرعمتُ فيها!، وكم تمنّيتُ لو كنتُ داخل كادر الصورة، وأنتم تلتقطون تلكَ الصور.

أتساءل باشتعال: هل نحنُ الّذينَ عبرنا المسافات على أجنحة الرِّيح، وتركنا شوارعنا تصرخ في أعماق اللَّيل، تمتَّعنا في ضجيج الغربة، ودهاليز الأقبية الغارقة في موجات الحزن، وسط جموح شوق الرُّوح المنسابة في أعماق الحلم؟! هل ثمَّةَ أجمل من أن يحضنَ الإنسان معابر الصِّبا، ومخارج الفرح في واحات الطُّفولة الَّتي احتضنته سنوات طوال، أين نسير يا قلبي، وهناكَ آلاف الصُّور في الذَّاكرة تبكي وتنوح من شدّةِ الشَّوق، أريدُ أن أبكي حتّى أتوازن مع شوقي العميق إلى سماء الأحبّة، كلّ الأحبّة! ..

عندما نظرتُ إلى شوارعي وأزقّتي ومعالم فرحي الَّتي خبّأتها بين حنايا الرُّوح، لم أستطِعْ أن أحبسَ دمعتي، فأنا لا أختلفُ عن أيِّ طفلٍ فقد ألعابه الحميمة، ويشتاقُ إليها كلّما هبَّ النَّسيم العليل من سماء المالكيّة وكرومها وسهولها الفسيحة، نظرتُ إلى المرآة للتأكّد من نقاوةِ دمعتي فوجدتها معفّرة بكلّ أنواع الغربة، وتأكّدتُ أنَّ الحصادَ الّذي حصدته في بحار غربتي، مكثّفٌ بالشَّوكِ والبربورِ والزؤانِ، ولم أعثر على أيّةِ معالم فرحٍ في تجاعيدِ غربتي سوى هذا الشَّوق المجنون إلى تلكَ التِّلالِ وخدودِ الأهل؛ وكلّما أحاولُ أن أعانقَ خلاني، أجدني محاصراً ببحيرات ستوكهولم من كلّ الجِّهات!.. أنا التَّائه في أعماق الحرف والبحار والحلم المشنفر بكلِّ أنواع العذاب، لا تصدّقوني يا أحبّائي إن قلتُ لكم أنّني سعيدٌ في غربتي، ولا تصدّقوا حرفي عندما يلامس وجنةَ الشَّفقِ؛ فحرفي وإن علَتْ قامته، فإنّه يعلو فوق جبهة الرُّوح، تاركاً قلبي يبكي ليل نهار شوقاً إلى ذواتٍ تائهة خلف البحار من الجِّهةِ الأخرى من جموحِ الرُّوح، كنتُ أظنُّ أنَّ روحي ستهدأُ، لو لملمتُ ديريك حول خاصرة القلب، ديريك مسقط الرأس، تاجٌ من الذَّهب الصَّافي، أفرشه فوق روحي، فوق نداوة حرفي، فوق معابر الحنين، فوق طراوة الحلمِ، ديريك صديقتي الأبقى، حبيبة من لونِ البابونج، أوّل أنثى عانقتها من ديريك، أوّل قصّة كتبتها في ديريك، أوّل حرف نقشته في ديريك، أوّل دمعة ذرفتها في ديريك، أوّل حلم مسربل بالإبداع اندلع في ديريك، أوّل نجمة عشقتها، تلألأ وميضها في سماء ديريك، أوّل نورج ركبته في ديريك، وأوّل منجل حملته وحصدتُ فيه سنابل العشق في ديريك، أوّل بيدر فرشتُ فوقهُ أكوام الحنطة في ديريك، أوّل صديقة نبتتْ بين تجاعيد فرحي من ديريك، وأوّل صديق سطعَ فوق خميلةِ القلب من ديريك؛ أحمل ديريك فوق وجنةِ روحي، وأفرشها فوق شهقتي العميقة، أدلقها فوقَ نهدِ صديقة من نكهةِ الياسمين، أوّل مرّة أشعر بأهمِّيَّة شوق والدي إلى "آزخ" أو "كوفخ" مسقط رأسهِ، ديريك هي وطني السَّرمدي الَّذي أشتاقُ إليه بطريقةٍ صارخة وحارقة، أشتاقُ أكثر ما أشتاقُ إلى أكوامِ الطيّنِ الَّتي رافقتني ثلث قرن من الزَّمان! لا أنسى أبداً كرومها، أزقّتها، أشجارها، ترابها، صيفها ونجومها الَّتي تضحكُ في سمائها القمراء، ألعاب الطُّفولة تنفرش أمامي فأتذكّر لعبةَ (القتيلة والدَّامة، والباقوش، والمزعار، والطّفش، والشَّميطونكة، والسِّيخ، والدَّاربولكة، والكيبالة، والغلوغلو، والكارشو بشّ، والاعتماد على (التّسطو مسطو) قبل بداية كل لعبة، فيرتعش قلبي شوقاً إلى تلالِ الذَّاكرة البعيدة، فتقفز في أعماق الرُّوح ألعاباً متلألئة بدموعِ الحنين، فأشتاق إلى لعبةِ (البرّي والتُّوش والبيبة والصّلابة والبوكة والصَّنم والكيلافرّي والبرو برفانو بري وا جاوايا)، ثمّ تأخذني الذَّاكرة إلى سهول القمح الفسيحة، عابراً البراري مع أحبّتي نبحث عن (الحرشف والحِمحِم والقيفارات والقولكات والبيشّكات وعين البقرة وزهور الخطميّة)، نلملم بمتعة باقات (القنجرّيهْ).. نقطِّعها ونخلطها مع الثُّوم والجّبنة النّاعمة كي نصنع منها (سيركة) للشتاء الطَّويل، وكم كنت أفرح عندما كنتُ أشاهد (زيغلانة) في أرضٍ خصبة، كنتُ أستأصلها من أعماق جذورها، وأقشّرها وآكلها بلذّة طيّبة، وكأنّها نبتة الحياة!

طفولة من لون النّعناع البرّي، تتراءى أمامي شامخة مثل باقات النّرجس البرّي عندما كنّا نقطفها من (كفري حارّو) ونحن صغار، ثمَّ نأتي ونقدّمها لأساتذتنا، حيث يملأ أريجها معابر الصّفوف، أشعر الآن وكأنّني أشمّ عبق شذاها، فتخرّ دمعتي شوقاً إلى عوالمِ طفولتي الفسيحة المتلألئة مثل سنابل الرُّوح، طفولة متناثرة فوق معابر أزقّتي البعيدة، مترامية حول ضفافِ الأنهار، نلمُّ باقات (القرّامِ) ونصنع منه (ريسيّات) كي نقطع مجرى النّهر لإصطياد سمكِ الشَّبوطِ، أتذكّر كيف كنتُ أركض خلف الفراشات و(الجزجزوكات) والجراد وفرس الأمير، هسيس الحشرات يعبر مخابئ الحلم، نلملم باقات السَّنابل والحمّص الأخضر والعدس و(شولكة) العصفور وشولكة (الشَّايكْ)؛ إنّي أتوه شوقاً إلى هواءٍ عليل، إلى أزقّةٍ طينيّة غارقة في شهقات الحنين..

ما كنتُ أظنُّ أنّ لملمةَ شواطئ الذَّاكرة لا يروي غليل الحنين المحفور في جبهة الرُّوح، هل نحن الَّذين نرسم أزقّتنا بلون المحبّة، وتهنا خلف البحار، وجدنا مخدّة مريحة أكثر راحة من مخدّة الأم؟، أين أنتِ يا أمّي، لتري كم مخدّتي قاسية وخشنة كأنّها مصنوعة من بقايا التّبنِ، لا راحة ولا فرح يلوحُ لي في الأفقِ. لماذا ابتعدتَ كثيراً عنّي يا أفقي، وهل ثمّةَ أفقٍ مريح لما أرنو إليه في سماءِ الغربةِ؟ هناكَ ألف سؤالٍ وسؤال يراودني، وكلّ سؤال يذبحني من الوريدِ إلى الوريدِ قبلَ أن أجيبَ عنه، فلا أجيب عن أسئلتي، وأهرب منها بإنهزاميّة قاتلة، ولا أجد سوى حرفي، فأدلقه بكلّ شهوة فوق نصاعةِ الورقِ، لعلّي أخفِّفُ قليلاً من وهجِ الشَّوق إلى سماءِ الطُّفولةِ آهٍ.. يا طفولتي البائسة، لماذا أشتاقُ إليكِ رغمَ بؤسكِ، ورغم كثافات الطِّين الَّتي كانت تحيق بي حتّى ركبتي؟!

وجعٌ لا خلاص منه مرّةً، وأنا غائصٌ في أكوامكِ الطِّينيّة ومرَّة شوقاً إلى تلكَ الأكوامِ، معادلاتٌ لا أجدُ لها حلاً ولا توازناً، فلا أجدُ نفسي متوازناً مع نفسي، إلا عبر الحرفِ، وحده حرفي يعيد إليّ قليلاً من توازنات معالمِ تيهي المتطاير بين أجنحةِ اللَّيل، ليل غربتي، لو تعلموا كم من السَّاعات بكيتُ في رحابِ غربتي، تسربلني كآبة الشِّتاءات الطَّويلة، أريد أن أفضحَ لكم هذا الَّذي يدعى (صبري)، هذا الّذي يفرشُ حرفه فوق لجينِ الغسقِ، غير آبهٍ لجمرةِ الشَّوقِ المتلألئِ في سماءِ الحلقِ، إلى متى ستكابر أيّها الكاتب (الخياليّ)، أيّها المجنّح في سماواتِ الحرفِ، أينَ المفرُّ من الحنانِ والشَّوقِ إلى أحضانِ الأحبّةِ وعظامِ الأهلِ؟

البارحة رأيتُ والدي في حلمي، رأيته يحلّقُ فوق البحار عابراً المسافات، بقامته القصيرة وعقاله و(شرواله)، رأيته واقفاً أمامي بهيكله العظميّ، وليس بهيئته الطَّبيعيّة، خرجَ من قبره غير مكترث بأبجديَّات الموتِ، جاء كي يعرّي خشونتي، وعدم اكتراثي لجمرةِ الشَّوقِ، زارني في الحلمِ كي (يشرشحني)، عبر غربتي وأنا غائصٌ في تضاريس الحلمِ، هزّني من كتفي، اندهشتُ من صلابة العجائزِ رغمَ ذوبانِ البدنِ: هيكلٌ عظميّ بكلِّ عنفوانه، جاءني، كي يوقظني من نومي، ويحقِّقَ لي ولو قليلاُ لما تبقّى من خصوبةِ الحلمِ، احتنضتُ العظام الحنونة، فتراءت لي سهول القمح وكروم الفرحِ واخضرار الأيام والشُّهور والسِّنين الَّتي عشتها بين أحضانِ الأسرةِ، حلمٌ من لون الادهاش والاندهاش، أسرة ملوّنة بكلّ أنواع الفرح والبكاء، مايزال حنوناً حتّى بعدَ الموتِ وسيبقى إلى ما بعدَ الموت، استبدلَ مخدَّتي بوسادة من طراوةِ السَّنابل، وزيّن لحافي بعناقيدِ المحبّة والأبوّةِ، عبرتُ دهاليز أزقّتي، نهضتُ من نومي فجأةً وإذ بي أجدُ وسادتي مطرّزةً بنداوةِ الدَّمعِ، شعرتُ بالإرتعاشِ والخوفِ من خشونةِ غربتي ومن وجعِ الشَّوقِ، ثمَّ ارتسمت أمامي مشاهدُ الوداع الأخير، وتراءت أمامي الأحبّة، ثمَّ تغلغلَ الحزن في أعماقِ الرُّوح والبدنِ، وتساءلتُ:

كيفَ عبر والدي كلّ هذه البحار؟ جاءني كي يبدّدَ آهاتي ويفجِّر بي وهجَ الحنان إلى العظامِ، عظام الّذين أنجبوني للحياةِ!.. هل ثمّةَ شيء في الدُّنيا أغلى من عظامِ الأمِّ، من عظامِ الوالدِ الحنونِ؟ عجباً أرى كيف تحمّلتُ كلّ هذه السِّنين، وأنا بعيد عن شهقةِ الأحبّة؟ هل أنا طبيعي ومن لحمٍ ودمّ؟ يراودني أنَّ قلبي تصلّبَ من خشونةِ المسافات، ربّما من شدّة الحزنِ أو من وطأةِ الشَّوقِ أو ربّما من وجعِ الحنين، لهذا تجاوزت كلّ أنواع الشَّوق، وتهتُ في عوالم ما بعدَ الشَّوق، لأنّ الشَّوقَ لم يعُدْ يبلسمُ خدّي، فما وجدتُ في سماء غربتي مَنْ يعانق وجع الشَّوق غير حرفي، اعذروني يا أحبّتي لو كنتُ قاسياً بحقّكم أكثر من حجرِ الصّوانِ فقد خلخلت الغربة أجنحتي فلم أجد نفسي إلا وأنا أندفع في رعونةِ الرِّيحِ وغدرِ البحرِ، فتأكسدتْ لغةُ الشَّوق مع أحجار الصّوان من شدّةِ حزني وألمي، فلم أجد ما يسعفني سوى قلمي كي أكتبَ عن غزارةِ الدُّموع بعدَ هبوطِ اللَّيلِ، وعن جمرةِ الشَّوقِ بعدَ أن حلّقتُ في أعماقِ السَّماء، لكنّي خبّأتُ كلّ تلاوين الحنان بين خميلةِ الرُّوحِ، فلم أستطِعْ أن أفشي لكم بكلّ أسراري، كي لا تقلقوا على خشونة الانتظار، لكن آنَ الأوان أن أفضحَ لكم نفسي وأصارحكم وأنا بكاملِ قيافتي: أنَّ عينيَّ لم تذُق طعمَ الفرح منذ أن عبرتُ البحار، ومنذ أن تسلَّلتُ من بين أحضانكم الدَّافئة ولم أجد حضناً أدفأ من أحضانكم ومع كلّ هذا الإنشراخ، لا تقلقوا، فأنا لم ولن أنساكم يوماً واحداً، سأعودُ يوماً إلى مساحات طفولتي المتناثرة بين خدودكم الطَّافحة بالعذوبةِ، كي أفرشَ لهيبَ غربتي وشوقي فوقَ أحضانِكم الفسيحة، وأشهقُ بكلِّ فرحٍ شهقةً عبقة أكثر من بهجةِ الإنتشاءِ!


ستوكهولم: 1 . 9 . 2003 صياغة أولى
13 . 7 . 2004 صياغة أخيرة
ليس لديك الصلاحية لمشاهدة المرفقات
صورة العضو الرمزية
إسحق القس افرام
مدير الموقع
مدير الموقع
مشاركات: 55188
اشترك في: السبت إبريل 17, 2010 8:46 am
مكان: السويد

Re: ديريك ياشهقة الرّوح ـ [صبري يوسف]

مشاركة بواسطة إسحق القس افرام »

كتبت لنا اروع الكلمات عن بلدتنا الحبيبة ديريك ووضعتها ضمن لوحة خزفية جميلة
ليرعاك الرب فناننا التشكيلي السرياني صبري يوسف
بانتظار قصائدك الادبية الجميلة.
[/font][/color]
:croes1: فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ :croes1:
صورة
صورة
صورة العضو الرمزية
سعاد نيسان
مشرف
مشرف
مشاركات: 17070
اشترك في: الأربعاء أكتوبر 27, 2010 5:08 pm

Re: ديريك ياشهقة الرّوح ـ [صبري يوسف]

مشاركة بواسطة سعاد نيسان »

الأستاذ صبري
اشكرك من الأعماق على كل كلمة كتبتها عن مدينتا الرائعة ديريك
وسنظل العمر كله نشتاق إليها كما يشتاق الطفل إلى حضن أمه
وأنا دائماً أوجه ندائي من خلال مواقعنا إلى كتابنا وشعرائنا
أن لايبخلوا علينا بكتاباتهم :ros4:
:tawdee:
أقتن الذهب بمقدار أما العلم فاكتسبه بلا حد لأن الذهب يكثر الآفات أما العلم فيورث الراحة و النعيم .
أضف رد جديد

العودة إلى ”منتدى الأدب والتراث السرياني“