بقلم : فريد توما مراد
بعد قضاء أسبوعاً مرهقاً في القاهرة وإزدحامها وهؤائها المعبّق
بدخان السيارات ...حان وقت الإستجمام على شواطىء البحر الأحمر
الصافية الخلابة ...هكذا كان مقرراً في البرنامج ...نعم الكشَّاف بحاجة
إلى راحة ..
مرَّ يومان على تواجدنا في مدينة (الغردقة ) حيث المناظر الجميلة
والبحر والشمس والهواء العليل ..كل شيء يبعث الطمأنينة إلى النفس ...
بالحقيقة لم نكن مهيأين جيداً عندما قالت لنا المسئولة : اليوم أيها
الأحبة لنا لقاء مع ( الفوج الكشفي في الغردقة ) واللقاء سيتم الساعة
السادسة عصراً هنا في الساحة الخارجية للفندق ...!!
أردت أن أطرح عليها بعض الأسئلة عن سبب اللقاء والزيارة ..
لكن لماذا الأسئلة التي ليس لها منفع ..فطالما نحن كشّاف الفوج الرابع
إذاً لابدَّ من مثل هذه اللقاءات الكشفيّة المتبادلة ..
لم يبقى سوى ساعة على وصول ضيوفنا ..بدأنا بالتجهيزات والترتيبات
مددنا الطاولات وفرشناها ووضعنا عليها كل مايليق بحسن الضيافة
والكرم ..وهذ أقل ما نفعله لتبيض صفحة الوجه أمام ضيوفنا ...
لا...أحقاً ماترى عينيَّ .. وتسمع أذنيَّ ! أهل هذا حقيقة أم خيال ؟
لا..لا..إنها الحقيقة بعينها ....
فهاهم ضيوفنا قادمون على وقع مزامير النفخ والطبول ..
وقفنا جميعنا وقفة تأهّب .. وهذا أقل واجب منّأ إكراماً لهم ..
قلبت الخالة خاتون (الكشفيّة النشيطة ) الكرسي من خلفها وهي
تتأهّب للوقوف ، فأحدث قرقعة ، تداركناها بسرعة ...
الكشفيّة الغردقيّة لازالت تشنّف مسامعنا بأجمل المعزوفات
الموسيقيّة ..وبين كل معزوفة ومعزوفة تتعالى الزغاريد والتهاليل ..
من قبل الأخوات الكشفيات من جهتنا ..
أنتهى العزف ..وحان وقت تبادل ( الفورال الكشفي) بيننا وبينهم
هكذا هي العادة ... وهذه أمور لايعرفها سوى الكشفيين أصحاب
الخبرات العالية ..تأهب الطرف الآخر ..وتأهبنا نحن أيضاً ..
لابد أن نختار واحداً منّا ليقوم بأداء هذه المهمّة ..وقع أختيارنا
جميعاً على الرفيق الكشفي العم إبراهيم .. ولِما لا ..؟ فهو أجدرنا
وأكفأنا ويملىء مركزه ..وعلاوة على ذلك ففيه شبهاً كبيراً من زعيمهم
الراحل ( جمال عبد الناصر ) حتى أننا في بعض الأحيان عندما
كنا نتواجد في الأماكن العامة كانوا يتمازحون في لهجتهم المصريّة
ويقولون بعضهم لبعض : ( هوَّ الريس رجع ياخوانا )؟..
كتم العم إبراهيم الكشفي المميّز أنفاسه ووقف وقفة مشرَّفة ..
من الطرف الآخر ومواجهة له وقف أيضاً على مايبدو أحّد قادتهم ..
خيّم الصمت على المكان ..حُبست الأنفاس ... سَعلتْ إحدى الكشفيات
عدة سعلات مختنقة ..ردت عليها الكشفيّة التي كانت تقف بجوارها
وقالت

تقدم الكشفي القائد، ثلاث خطوات بأتجاه مثيله القائد من طرفنا ..
خبط رجله اليمنى في الأرض وردد بعض الكلمات السريعة التي
لم أتمكن من إلتقاطها ..ثم بحركة ديناميكيّة غريبة وعجيبة ، سحب
الفورال من حول رقبته ، وبيديه الأثنتين ومساعدة قليلة من فمه
جعل منه شكلاً هندسيّاً ثلاثي الأبعاد وقدّمه بحركة أنضباطيّة لائقة
إلى قائد فوجنا الكشفي ( العم إبراهيم ) ..
لازال الصمت مهيمناً على المكان ..الجميع منتظرين حركة القائد
وماذا سيفعل ؟ وكيف سيقدم بدوره الفورال إلى قائد الفوج الآخر ..
من قال بأنَّ العم إبراهيم ، الكشفي المدرب على أمهر التدريبات
أنه سيضعف أمام موقفاً كهذا .. ! لا .. فالضعف ليس من سِماته ..
وبسرعة البرق نزع العم إبراهيم الفورال من حول رقبته ..وبحركة
رهيبة وثقة عالية بالنفس عقده عقدة محكمة غير قابلة بتاتاً للإنفكاك..
(نعم ..فهذه هي طريقتنا في تقديم الفورال ...عندما نعقده عِقدة محكمة
فهذا دليل على عَقدْ صِلة الأخوة والتضامن مع الطرف الآخر ..
وكلما زادت العِقد ..أزدادت هذه الصلة ..)
وبثقة عالية جدّاً بالنفس قدّم الرفيق إبراهيم بكلتا يديه الفورال إلى
إلى القائد ، وبصوت واضح ورزين قال لهُ : ( خذ الله يبارك عليك )
وهنا تعالت الهتافات والزغاريد والتصفيق المتواصل ..نعم لقد تمّت
المبادلة بالتوفيق والنجاح ... والفضل ..كل الفضل ..يعود للعم إبراهيم
وتقنيته العالية ..
***
في طريقنا ونحنُ راجعون من الغردقة ، هناك نقطة تفتيش
لابد من الوقوف عندها ، والسبب يعود لوقوع هذه المدينة
على البحر الأحمر ، المفتوح مع إسرائيل ..
قبل وصولنا إلى النقطة ، قال لنا (الدليل) الذي كان يرافقنا الرحلة :
إذا سألوكم عن جنسياتكم ، فقولوا لهم ( سوريين ) فهذا يوفر علينا
السين والجين ، ولا نضطر إلى أخذ تصريح بكل تحركاتنا ..
وأضاف وقال : إذا كان أحّداً منكم يحمل جواز سفراً سوريّاً فليبرزه ..
الكل يحمل جوازات سفر سويديّة ..ولكن من أصول سوريّة ..
إثنان فقط كانوا قد جلبوا معهم جوازات سفرهم السوريّة من باب الأحطياط
وليس الإستخدام ..لأنهم بالأساس كانوا يحملون جوازات
سفر سويديّة ...
أخذهم الدليل دون أن ينظر إليهم ..وصلنا نقطة التفتيش ..صعد أحد
العساكر الباص ليسأل عن الموجودين بداخله .. فقال له الدليل إنهم
سوريين ، ودفع إليه بالجوازين اللذين كانا معه ...
نظر العسكري في الجواز الأول ، فأغلقه ، ثم نظر في الجواز الثاني
ولكنه تركه مفتوحاً ، وأخذ يتمعن ويدقق فيه ، ثم نادى بصوت عالٍ
وقال: من صاحب هذا الجواز ؟
لم يكن العسكري على خطىءٍ عندما نادى بهذا الشكل ، وكان بإمكانه أن
يقرأ الإسم في الجواز وينادي على صاحبه ..لكن يظهر أن هذا الجواز
كان قد تعرّض سابقاً إلى نزلة صدريّة حادة كانت قد أودت بقسم كبير
من محتوياته ..حتى الصورة لم تسلم من ذلك ..كان قد بقي منها مجرّد
خيال ، وملامح غير واضحة أبداً .
بعد أن رفع العم كوركيس يده ليؤِّكد أنه صاحب الجواز .. طلب العسكري
من سائق الباص أن يركنه على طرف ريثما يعود ..
غاب العسكري بضعة دقائق ثم عاد ليقول : قد يتطلب الأمر وقتاً طويلاً
حتى نتمكن من إثبات صحة الجواز ..!
على من نُلقي اللوم ؟ أعلى العم كوركيس الذي يحمل جواز سفر مُصاب
بداء الجدري وهو رجل قد قارب الثمانينات ؟ أم على أولاده وبناته
الذين لم يتفقدوا هذا الجواز ؟ أم على دليل رحلتنا المحترم الذي لم ينظر
فيه قبل تسليمه إلى العسكري ؟ المهم حصل ما حصل .. والندم لا ينفع
ولكن ماذا سنفعل الآن ؟...
نزلت المسئولة من الباص بعد أن طلبت من الجميع البقاء في أماكنهم ..
طلبت مني بصوت منخفض أن أرافقها ، لندخل نحن الثلاثة ، أنا ، وهيّ
ودليل الرحلة مبنى نقطة التفتيش ، ونستأذن الدخول على المسئول ..
دخل الحاجب ليُعلمه ، فأذن لنا ،فدخلنا، كان ضابطاً بنجمتين على كتفه
تكلمت المسؤلة وبدأت توضح له على أننا قادمون في رحلة كشفيّة لزيارة
الأماكن المقدسة ، والمعالم الأثريّة ، وتابعت قائلة : نحنُ معروفون من قبل البابا شنودة ..
ومن قبل قائد الكشفيّة هنا في مدينة الغردقة ....وو..
أجابها الضابط وقال : ولكن هذا لايمنعنا من القيام بواجبنا ...
بعد مناقشة شبه مملّة بيننا وبين الضابط ..أضطرينا أن نعترف بالحقيقة
على أننا جميعنا سوريين مقيمين في السويد ، ونحمل جوازات سفر سويديّة ..
وجواز السفر هذا مع العم كوركيس هو من باب الزيادة فقط
ناهيكَ على أنه رجلاً طاعناً في السن ، ولايدري بمثل هذه الأمور ..
سمحوا لنا في النهاية أن نكمل مسيرنا إلى القاهرة ....
***
كان يوماً قائظاً ، لكن الحق يقال فالأجواء داخل الباص كانت منعشة
وهذا دليل على سلامة المكييف ..كنا قد قطعنا حوالي ساعتين ، مبتعدين
فيها عن نقطة التفتيش .. كان الهدوء قد ساد المكان ، وعلامات الأسترخاء
قد طغت على الأغلبية فراحوا في سباتٍ عميق ، وبين الفينة والأخرى كانت
تنبعث من هنا وهناك أصوات مختلفة في الوزن والتقسيم والأداء ..
ألحان نهاونديّة وحجازيّة وعجميّة .. لا بل نغمات السمفونيات الخامسة
والسادسة والتاسعة لبيتهوفن....( نعم إنهم يعرفون كيف ينتقون مقطوعاتهم
الموسيقيّة ..يجب أن تكون الأحلى والأعذب ) سبحان الله .! شلالات
من الموسيقة المتنوعة المتدفقة عبر المكان ...
ناهيك عن الأصوات المنبعثة من أصطكاك طواقم الأسنان ببعضها البعض ...
فتأخذك رعبة وتشعركَ وكأنكَ في يوم الحشرْ...
كيف أخذني النعاس بين هذا الصخب والضجيج لا أعلم ...؟!
كم من المدة غفوتُ أيضاً لا أعلم ..؟! ... ولكن ماأعلمه أنني صحوتُ على
جرس هاتفي يرن .. جفلتُ ولازال النعاس يغلب على أعيني .. قلت آلو
أتاني جوابها بآلو فيها شيئاً من الخشونة وقال : ( معاكَ العميد طلعت شكري )..
أرتعدت فرائصي لمجرد سماعي كلمة العميد ، أردتُ الوقوف ، لكن
ما أعاقني على ذلك ، زوجتي التي كانت قد أمالت برأسها على كتفي ، وغطت في نومٍ عميق ...
( العميد طلعت شكري يكلمني ...وهنا في مصر ..! ماذا فعلتُ ياترى ؟
وكيف عرف رقم هاتفي ؟.. ولماذا أنا بالذات ؟..إنني لا أذكر في حياتي
كلها تكلمت مع شخص بمستوى هذه الرتبة الرفيعة ...! وربما كانت
أعلاها رتبة ملازم أو ملازم أول ..إنما عميد دفعة واحدة ؟ لا..لا ..فهناك
خطأ ما ..فربما لستُ أنا المقصود في المكالمة )
- خير ياسيادة العميد حصل حاجة وحشة لاسمح الله ؟ قلتها بصوت متقطِّع
لايخلو من الإرتباك والرهبة ...
- خير إنشاالله ..كل الخير .. مين معايا .. الأخ فريد ؟
( لا.... يظهر أنا هو المقصود مائة في المائة .. فها هو يذكر أسمي أيضاً ..
إذاً فالموضوع جدّي للغاية ، وليس فيه خطأً ...والله يستر ..! )
رددتُ هذه الكلمات بيني وبين نفسي على عجل قبل أن أردَّ عليه وأقول :
نعم ..نعم ..أنا فريد .. ولكن ماذا في الأمر ؟ أرجوك طمِّني .. سيدي!
أجاب وقال : أطمئن ياأخي ..لم يحصل أي شيء سوى الخير ..
>أنا عميد الفوج الكشفي من الغردقة ، عاوز أكلِّم العميدة سعاد<
وهنا كان لابدَّ لي من الوقوف ..ولم يعد يعنيني رأس زوجتي المتهاوي
على كتفي ..ولا أولئك الذين كانت موسيقى شخيرهم تصدح في المكان..
نعم ..وقفتُ ورفعت حدة صوتي وقلت بذات اللهجة : عميد أيه ياخويا ..
وعاوز تكلّم مين ؟
قال : الرفيقة العميدة سعاد ...
تكلمتْ الرفيقة العميدة مع الرفيق العميد ، بعد أن أعطيتها الهاتف ....
عندما أنتهت من المكالمة قلتُ لها : كيف عرف سيادة العميد رقم هاتفي ؟
ومن أطلعه على أسمي ، ياسيادة العميدة ؟ ومع أحترامي ، فهذه أول مرة
أعرف فيها بأنكِ برتبة عميدة..!
أجابت وقالت : أنا من أعطيته أيَّاه وقلت له : هذا ينوب عني إذا كان
هاتفي مغلقاً .. أو مشغولاً !
وهنا لا أخفي عنكم أيها الأحبة ، كان لابدَّ لي أن أغمض عينيَّ وأفتح
فمي بعد هذا الخوف الذي داهمني وبعد هذا القلق والإرهاق والتشنج..
وبعد أن أرعبتُ زوجتي وجعلتها تقفز لترسم علامة الصليب على وجهها ظناً
منها بوقوع كارثة لا سمح الله ، وبعد أن أيقظتُ جميع الملحنين والموسيقيين الذين
كانوا يتناوبون على أجمل المعزوفات ، وبعد العرق
الذي تصبب مني ، برغم برودة المكان ، وبعد النومة الهنيئة التي كنت بها
قبل أن يرن جرس هاتفي . . نعم وجدتني أغمض عينيَّ وأفتح فمي لأصرخ وأقول :
الله ينعل أبو العموديّة وساعة العموديّة ....وأبو النيابة وساعة
النيابة ...وأبو الكشفيّة وساعة الكشفيّة ...وأبو الغردقة وساعة
الغردقة ..وأبومصر واللي جابني على مصر ...وأبو .. وأبو ..و..و.
بعدها بقليل .. وبعد أن خمدت ثورتي وهدأت أعصابي ، وبعد أن شربتُ قليلاً من
الماء البارد ... وتنفستُ الصعداء ، وشكرت الله على أنني بخير
وغير متورط لاسمح الله بتهمة جنائيّة ، أو ماشابه ذلك ....
كان لابدَّ لي أن أعتزر من سيادة العميدة ، لأنني أكنُّ لها دوماً
كل الإحترام والتقدير ، وهي بالمقابل تفعل ذلك .. هذا من ناحية ...
أما من الناحية الأخرى فلم يغبْ عن بالي أبداً بأننا كشّاف الفوج الرابع
شعارنا دائماً : المحبة والنظام والتسامح .
وأكتفي بهذا القدر من رحلتنا الكشفيّة إلى الديار المصريّة
لأن الحديث عنها يطول ...
تمت بإذن الله.
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد