مسيحيون وليس نصارى
للكاتب السرياني موفق نيسكو
للكاتب السرياني موفق نيسكو
النصارى والنصرانية كلمة تُطلق في اللغة العربية على المسيحيين عموماً، وهي كلمة سريانية (نصريا، ) معناها الغصن 1، وبالعبرية أيضاً النصارى נָצְרַת nazir تعني الغصن، الجذع، القضيب، فرع الشجرة..الخ)، فالأصل العبري لكلمة جذع هو netzer، وهناك كلمة عبرية أخرى نصير (נזיר، nzyr) معناها راهب أو ناسك وردت في (سفر القضاة13: 5–7) وغيره.
ولأن اليهود لم يؤمنوا بأن يسوع هو المسيح (المسيا) المنتظر حسب كتبهم، لذلك وحسب التقاليد الشرقية وفق انتساب الشخص لمدينة نشأته فقد أطلق اليهود كلمة النصارى على السيد المسيح وأتباعه فسمّوه يسوع الناصري نسبة إلى مدينة الناصرة التي عاش فيها، وقد تحدث سفر أعمال الرسل 5:24 عن شيعة الناصريين: "فإننا إذ وجدنا هذا الرجل مفسداً ومهيّج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة ومقدام شيعة الناصريين".
أمّا المسيحيون من غير اليهود فاستعملوا في بداية السنين الأولى للمسيحية كلمة أخوة أو تلاميذ أو مبشري يسوع المسيح، وعندما انتشرت المسيحية بين الأمم خارج أورشليم وما جاورها إلى المناطق الأخرى أُطلق اسم المسيحيين على أتباع المسيح في أنطاكية (أع 27:11)، ثم شاع هذا الاسم في أقطار العالم فيما بعد فسميّ المؤمنون بالمسيح من الأمم الأخرى مسيحيين، وبقي اسم النصارى خاص فقط باليهود الذين آمنوا بالمسيح وخاصة أولئك اليهود الذين بقوا متعصبين للتوراة وشريعة موسى، ففي البيئة اليهودية الأولى فقط والسنوات الأولى فقط والى سنة 51م، دُعي أتباع المسيح (نصارى) والذين كانوا من اليهود المتعصبين حصراً.
يعود أصل النصارى إلى طائفة متعصبة من اليهود الذين اعتنقوا المسيحية وآمنوا بالمسيح من منطلق قومي أو فئوي أكثر منه عقائدي، فبقي هؤلاء اليهود متعصبين للقومية اليهودية واعتبروا أنفسهم بأن لهم حق السيادة والرئاسة على المسيحيين جميعاً، كما اعتبروا أن ممارسة الناموس الموسوي القديم مثل حفظ السبت والختان وتحريم المخنوق والدم وبعض المأكولات والاتجاه بالقبلة إلى أورشليم أثناء الصلاة وغيرها شرطاً لخلاص المؤمن بالمسيح2 ، أي أنهم كانوا يقيمون شرائع التوراة والإنجيل معاً ولا يقبلون أن يعتنق شخص من الوثنيين والأمم الأخرى المسيحية قبل أن يصبح يهودياً ويطبق شرائع التوراة كاملةً، وكانوا يعارضون بشكل كبير الرسول بولس الذي كان يبشر بين الأمم والذي كان يرفض بشدة تهويد المسيحية والسيادة لهؤلاء النصارى، وقد كان النصارى في بداية الأمر ملتفّين حول أسقف أورشليم مار يعقوب حيث كان مار يعقوب شخصاً معتبراً ومقدّراً وذو منزلة كبيرة وكلمة مسموعة من قبل النصارى بحيث أنهم كانوا يعتبرونه خليفة المسيح وكانوا يسمونه سور الشعب3 ، وكانت مدينة القدس مركز النصارى، ثم قام النصارى بإحداث مشاكل وبلبلة بخصوص أن يلتزم المسيحيون من الأمم الأخرى بالناموس اليهودي كاملاً شرطاً لإيمانهم بالمسيح، فأدى ذلك إلى انعقاد مجمع أورشليم سنة51م (بعض المصادر 49م) والذي حلَّ المشكلة بشكل مؤقت بين الطرفين المؤمنين من غير اليهود أي الأمميين بزعامة بولس الرسول من جهة، والمؤمنين من اليهود أي النصارى بزعامة مار يعقوب من جهة أخرى، واستطاع هذا المؤتمر أن يوثر علي النصارى لقبول المبادئ المسيحية وعدم تهويدها، وبعد استشهاد مار يعقوب الرسول على أيدي اليهود سنة 62م، لم يسكت النصارى بل قاموا بعمل مشاكل كثيرة إلى أن أتى مار اغناطيوس النوراني(+ 107م) ثالث بطاركة أنطاكية السريانية ليحل المشكلة بشكل نهائي تقريباً، حيث عَمل على اتحاد الأمم مع اليهود المتنصرين وأعلن الكنيسة المسيحية (الجامعة) أي التي تجمع الأمم واليهود معاً باسم المسيح، وإنّ المعمودية المسيحية هي المميز الأساسي للمسيحي وليس الختان، فاقتنع وقَبِل كثير من النصارى هذا الأمر وانصهروا في المسيحية وأصبحوا مسيحيين، أمّا غلاَّة ومتعصبي النصارى فلم يقبلوا الانضمام تحت لواء المسيحية ورئاستها وعقيدتها في السيد المسيح بل بقوا محافظين على عقيدتهم والالتزام بتعاليم التوراة من حفظ السبت والختان وتحريم المأكولات واستعمال نسخة مشوَّهة من إنجيل متى فقط والمكتوب بالسريانية وكانوا يسمونه إنجيل العبرانيين، لأن متى الإنجيلي وكما هو معروف كتب إنجيله لليهود الذين كانوا في فلسطين، ثم قاموا بالاعتماد على تفاسير فلسفية يونانية ومعرفية وباطنية لتحريف تعاليم الإنجيل مثل"اعتبار السيد المسيح هو أحد الأنبياء العاديين مثل موسى ودانيال وبقية أنبياء العهد القديم، وأن المسيح وإن ولد من مريم البتول بمعجزة، لكنه ابن الله بالمجاز لا في الحقيقة، أي أن الله لم يلد ولم يولد، والمسيح هو بشر سوي مخلوق لا رب معبود، وأنه غير أزلي أي ليس إلهاً، أو أنه بالحقيقة لم يُصلب ولكن الناس شبّه لهم وتخيلوا بأنه قد صُلب، ولا يعترفون بالثالوث.. الخ".
وكان قسم من هؤلاء النصارى قد هاجر خارج أورشليم قبل الحرب الرومانية التي شنَّها الإمبراطور فسبسيان وابنه طيطس والتي أدت إلى محو وخراب أورشليم سنة70م، حيث حذَّرهم أحد زعمائهم وذكَّرهم بقول السيد المسيح بالهروب من أورشليم عندما تحيط بها جيوش الغزو4 ، فهربوا إلى شرق الأردن وأقاموا في مدن بيلاّ (فَحل) وكوْخبَة وغيرهما، وهناك اتصلوا برهبان قمران الأسينيين الذين كانوا يُسمَّون بالعبرية (الأبيونيين) أي الفقراء 5، وهؤلاء كانوا يستعملون أيضاً أنجيل متى المشوَّه فقط، وكان قسم منهم يعتبرون أن السيد المسيح ولد بالطبيعة من يوسف ومريم، وكانوا متزمتين من حيث الالتزام بالناموس اليهودي والتقشف الغذائي وإكثارهم من الوضوء6 ، واستطاع النصارى أن يكسبوا هؤلاء الرهبان إليهم، ثم عاد قسم كبير من النصارى إلى أورشليم سنة76م، وفي سنة 80م قام مجلس السنهدريم اليهودي بتأثير الرابي جملالئيل الثاني بحَرم النصارى (إلى جانب المسيحيين طبعاً) واعتبرهم مشركين ومرتدين يجب لعنهم في صلاة شمونة عسرة اليهودية اليومية التي تقول "لا يكون للمرتدين رجاء وليضمْحل في لحضه النصارى والمشركون"، وبهذا الحرْم اليهودي أصبح النصارى طائفة وسط بين اليهودية والمسيحية.
أمَّا الضربة القاضية والهجرة الكبيرة للنصارى فقد حدثت أثناء وبعد الحرب اليهودية الرومانية الثانية سنة 132–135م التي قام بها اليهودي ابن كوكب (بالسريانية بركوبا) ضد الدولة الرومانية أيام الإمبراطور هارديان حيث لم يشترك النصارى إلى جانبه بالثورة مما أثار حفيظة اليهود عليهم فتعرضوا للاضطهاد والقتل من قبل اليهود والرومان على حدٍ سواء، ثم قام الرومان بحَرْم دخول اليهود إلى أورشليم وبدلوا اسم أورشليم إلى إيلياء وهو الاسم الأول للقيصر هارديان، وقد طال هذا الحَرم النصارى أيضاً فتشتتوا مع أفكارهم خارج فلسطين إلى بلاد الشام ومصر، وهاجر قسم كبير منهم إلى شمال الجزيرة العربية والحجاز وخاصة المدينة المنورة ومكة7 ، وبقيت في أورشليم كنيسة مسيحية تحت رئاسة بطريرك الكنيسة الأنطاكية السريانية.
وكان عدد النصارى قليلاً في القرن الثالث كما يشهد اوريجانوس (185–254م ) 8، وفي القرن الرابع اهتم العلامة جيروم (347–420م) بأمر النصارى فكتب إلى القديس اوغسطين (354–430م) رسالة قائلاً: وماذا أقول في الأبيونيين، إنهم هم الذين تسميهم العامة نصارى 9، أمَّا مطران قسطنطينية سلامينا أبيفانوس (315–403م) فهو يلخص إيمان النصارى بقوله: "إن النصارى هم من اليهود ونزعتهم هي التهويد، قضية واحدة تميزهم عن المسيحيين واليهود على حدٍ سواء، فهم يتميزون عن اليهود بإيمانهم بالمسيح، ويتميزون عن المسيحية بإقامة الشريعة والختان وسائر الأحكام التوراتية"10 ، وينقل لنا المؤرخ يوحنا الآسيوي (+585م) وضع النصارى العرب وطوائفهم قبل الإسلام قائلاً: انقسمت مملكة العرب إلى خمس عشرة زعامة قبلية وخضع اغلبها للملكة الفارسية ومن ثم ضعفت وانهارت مملكة العرب المسيحيين بسبب خداع الروم وبدأت تظهر البدع بين العرب 11، لذلك فإن اغلب المسيحيين الذين انتشروا في منطقة الحجاز كانوا من هؤلاء النصارى (الأحناف،الآريوسيين، الأبيونيين، الكسائيين، وغيرهم)، ومنهم ورقة بن نوفل وزيد بن عمر وقس بن ساعدة وعثمان بن الحوريث والراهب بحيرى وغيرهم.
وهؤلاء النصارى هم الذين أطلق عليهم المسيحيون بالسريانية اسم (حنفا )(الأحناف) أي المنحرفين عن الإيمان أو الوثنيين أو الكافرين أو الجاهليين 12، ومن السريانية أخذت اللغة العربية هذه الكلمة لتعني كلمة حنيف بالعربية (المائل عن دين آبائه) 13، أو انحرف بدليل تسمية الأحنف لمن في رجله ميل 14، أي أن الحنفية التي ظهرت في بلاد العرب قبل الإسلام ليست ديناً مثل المسيحية واليهودية والإسلام، صحيح أنها تقول بوحدانية الله إلا أنها ليست ديانة كتاب أو وحي أو وصايا أو تعاليم أو طقوس 15، وأطلق المسيحيون على قسم من النصارى أحياناً اسم الكسائيون وهي كلمة سريانية أيضاً (كسيا ) تعني المتخفون أو المتغطون أو المتسترين 16، ومن هذه الكلمة السريانية أخذت اللغة العربية لفظة (كساء) التي تدل على نفس المعنى.
كما أَطلق العرب على هؤلاء النصارى بالعربية لفظة صابئي بمعنى الخارج من دينه إلى دين آخر17 ، وليس لكلمة الصابئة المذكورة في القرآن أية علاقة بدين الصابئة المندائية الموجودون أكثرهم في العراق اليوم، بل أن كلمة الصابئة الواردة في القران تعني الأحناف أو المائلين أو الخارجين عن دين آبائهم، أي أن كلمة الصابئة هي الترجمة العربية لكلمة حنفا السريانية، وأن العرب في عهد الرسول محمد كانوا يقولون للذي يفارق دين آبائه ويدخل في دين جديد بأنه (صابئ)، وقد أطلقوا هذا الاسم على المسلمين الأوائل حيث كانوا يقولون عنهم (الصبأة والصابئين) 18، وأن العرب سمَّت رسول الإسلام محمد نفسه (الصابئَ) لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام، وأن عمر بن الخطاب قبل أن يعتنق الإسلام قال على الرسول محمد بأنه "صابئ فرَّق أمرَ قريش وسفَّهَ أحلامها"19 ، وفي صحيح البخاري أن امرأة بدوية عَبَّرت عن الرسول محمد بقولها "ذلك الذي يقولون عنه الصابئي" 20، وفي أُسد الغابة حديث عن الحارث بن الحارث الغامدي أنه رأى جماعة من قريش قد تجمعوا على رجل من مكة، فسأل أبيه: ما هذه الجماعة؟ فأجابه أبوه،هؤلاء قوم اجتمعوا على صابئي لهم، فلما أشرفنا فإذا رسول الله يدعو إلى عبادة الله وحده 21، وعندما أسلَمَ عمر بن الخطاب قال إني صبوت وقال المجتمعون إن ابن الخطاب قد صبأ 22.
وقد عالج الأستاذ محمد عزة دروزة هذه المسألة بدقة وتفصيل قائلاً: إن الصابئة والأحناف شيئا واحداً، وإن أقوال المفسرين المسلمين حول الصابئة هي تخمينات متعددة ومتموِّجة، وإن الربط بين صابئة العراق وصابئة القرآن هو وَهْمُ وتجوّزْ وتلفيق مرتجل ومتأخر عن الإسلام بقرنين أو أكثر، وإن هذا الموضوع ذو خطورة حيث قال المفسرون عن هؤلاء الصابئين أقولاً عديدة، منها أنهم عبدة الكواكب، أو أنهم أُمة وسط بين اليهود والمسيحيين، ولقد استقر في الأذهان إن تسمية (الصٌّبَّة) هي للطائفة الموجودة في العراق اليوم، وأورد بعض المفسرين قصتهم مع الخليفة المأمون (813–833م) الذي مرَّ بقرية فيها طائفة تعبد الكواكب، فأراد أن يعتبرهم من المشركين وأن لا يقبل الجزية منهم، فقيل له إنهم الصابئون المذكورون في القرآن مع اليهود والنصارى، ولذلك يجب أن يعاملوا مثلهم، فأبقاهم على الذمة واخذ منهم الجزية 23.
فالنصرانية كانت خليطاً من اليهودية والمسيحية ومع الأيام امتزجت بالآريوسية والنسطورية والأوطاخية وغيرها، وهؤلاء تختلف عقائدهم مع المسيحية الأرثوذكسية أو الكاثوليكية بشأن الثالوث وشخصية السيد المسيح بأنه إله وابن الله وأنه مات مصلوباً وقام...الخ، ومن الطوائف النصرانية الأخرى التي انتشرت بين العرب المسيحيين هي طائفة المريمين أو الفطائرين الذين كانوا يؤلهون مريم العذراء ويقدمون لها القربان على شكل فطائر، وذكر الأب أنستاس الكرملي في إحدى المقالات المنشورة في مجلة المشرق (6:60) طائفة لا تزال بقاياها في العراق تعرف بالداؤدة أو الدواديين يعظمون داود النبي ويكرمون السيد المسيح لكنهم يجعلونه أقل مقاماً من النبي داود، وقد أشار القرآن في سورة (مريم 37) إلى اختلاف الشيع المسيحية التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية، إذ يقول "اختلف الأحزاب من بينهم"24 ، كما أن رسول الإسلام محمد عَرفَ قسماً من هذه البدع وكان يعلم أنها إثم عند المسيحيين الحقيقيين ومنها الأريوسية حيث خاطب الرسول محمد هرقل ملك الروم قائلاً: إني ادعوك بدعاية الإسلام، أسلمْ تَسلمْ يُؤتيك الله أجرك مرتين، فإن توليتَ (رَفَضّتَ) فإن عليك إثم الأريسيين"25 ، كل هذه البدع وغيرها التي شاعت بين القبائل اليهودية المتنصرة الساكنة في حدود الشام والحجاز شوَّهت المعتقدات المسيحية الصحيحة في تلك البلاد، لذلك فالنصرانية هي بدعة وهرطقة مسيحية وأن كثيراً من الفرق التي انبثقت من النصرانية مثل (الأحناف، الابيونيين، الكسائيين، المريمين) انتشرت بشكل كبير في جزيرة العرب والحجاز حتى قال المطران أبيفانيوس"إن بلاد العرب خصبة ببدعها (Arabia ferax haeresium)، وقد روى إيلاريوس أسقف بواتييه في رسالته إلى الإمبراطور قسطنطين (306–337م) إن قسماً من أشياع آريوس ظهروا في بلاد العرب ويسميهم أقاقيين نسبةً لاقاقيوس زعيمهم والذين كانوا يقولون إن من قال أن المسيح هو ابن الله فقد جعلوا لله زوجة، فخلطوا بين الولادة الجسدية والولادة الأقنومية الإلهية 26، ولأن الدين الإسلامي يعترف بالمسيحية ولكن بمفاهيم خاصة به مشابهة أو قريبة لعقائد بعض الفرق النصرانية خاصة بما يخص الثالوث وشخص السيد المسيح من إلوهيته وبنوته للآب وصلبه وقيامته ..الخ، فقد أعتبر قسم من مؤرخي وآباء الكنيسة مثل يوحنا الدمشقي (676–749م) في كتابه Haeresbius De (الهرطقات) أن الإسلام نفسه هو بدعة مسيحية نصرانية، وفي القرن الأخير ظهرت عدة كتب تبيّن التقارب الكبير بين التعاليم الإسلامية والنصرانية وتعتبر الإسلام هو عقيدة نصرانية مثل كتاب الإسلام بدعة نصرانية للكاتب إلياس المر وكتاب القران دعوة نصرانية ليوسف درة حداد وغيرهما.
ويقول الدكتور عبد الرحمن عبدالله: وقد جرى التفرقة بين مصطلح مسيحي ونصراني في فترة ما بعد الرسل period Apostolic، إذ أن لفظة النصارى كان تُطلق فقط على اليهود الذين آمنوا بالمسيح عليه السلام ولكنهم ظلّوا متمسكين بمختلف الشرائع اليهودية الأخرى، وتؤكد المصادر التاريخية اليونانية على ذلك (انظر على سبيل المثال ما كتبه J.M.Magnin في دورية preche chr̕ tien orent القدس (1973–1978)، وتؤكد المصادر الفارسية هذا التمييز بين مصطلح النصارى والمسيحيين، كما هو واضح في نقش Kartir في بخش رستم الذي يرجع إلى سنة 286م، ولا تُنكر المصادر السريانية هذا التمييز27 .
ولم تُطلق كلمة النصارى على المسيحيين في المؤلفات القديمة لتعني المسيحيين بل لتعني بدعة مسيحية باستثناء الكتابات العربية في الجزيرة العربية وخاصة الشعر الجاهلي قبل الإسلام ثم عند ظهور الإسلام وبعده للتميّز بينهم وبين اليهود، وقد تعرَّض المستشرق آرثر جفري لأصل كلمة نصارى، وقال إن العرب ربما اخذوا كلمة النصارى من اليهود، وأن اليهود كانوا يطلقون كلمة النصارى بازدراء على المسيحيين 28.
إلاَّ انه بعد الإسلام أخذت تُطلق كلمة النصارى على المسيحيين عموماً من قبل المؤرخين العرب والمسلمين، وقد وردت كلمة النصارى في القرآن في أربع سور ووردت 14مرة في 13 آية، 12 مرة منها مقرونة باليهود مباشرةً في نفس الآية ومرة مقرونة باليهود في الآية التي تسبقها، وعن المؤرخين العرب والمفسرين المسلمين أخذ كُتّاب ومؤرخي الكنائس المسيحية الشرقية من المسيحيين هذا الاسم واستعملوه للدلالة على المسيحيين عموماً لأنهم عاشوا بين العرب والمسلمين واستعملوا اللغة العربية في حياتهم الثقافية والعلمية، ناهيك عن أن قسماً من المسيحيين كانوا عرب (بدو) أصلاً 29، وقد استعمل كثير من رجال دين ومؤرخين وعلمانيين مسيحيين كلمة النصارى وتنصّرَ للدلالة على اعتناق أحد الأشخاص المسيحية، وهو خطأ تاريخي وعقائدي، والصحيح استعمال كلمة المسيحية أو اعتناق المسيحية أو الاهتداء أو الإيمان بالمسيحية للشخص الذي يؤمن بالمسيح، ولا تُستعمل كلمة النصارى إلاَّ في اللغة العربية فقط، أمَّا بالسريانية فيقال إن فلان أصبح مسيحياً (ؤوا مشيحيا)، وكذلك باللغات الأخرى مثل الانكليزية (Christianity)، وغيرها من اللغات.
والخلاصة أن النصرانية تاريخياً وعقائدياً وحتى مجي الإسلام هي غير المسيحية التقليدية الأرثوذكسية أو الكاثوليكية بل هي بدع لطوائف وشيع مسيحية عقائدها وسط بين اليهودية والمسيحية، وسوف نعالج في كتابنا القادم (مسيحيون وليس نصارى) هذا الموضوع بالتفصيل.
الهوامش
1: قاموس إيشو بن علي سرياني عربي ج2 ص 90، وقاموس الحسن بن بهلول سرياني عربي ص 1270.
2: قبلة المسيحية هي الشرق وليست أورشليم.
3: اوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة ك2 ف23،ص 7 وما يليها.
4: ذَكرَ هذه الحرب والحصار على أورشليم المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتابه الحرب اليهودية كتاب 5 و6، حيث قال إن الحصار كان قاتلاً مما أدى إلى أن يأكل الناس بعضهم بعضاً.
5: هناك رأيان في الاسم، الأول أن المسيحيين سمّوهم فقراء بمعنى فقراء العقيدة أو الفكر لان آرائهم في المسيح كانت فقيرة، والثاني لأنهم كانوا متقشفين جداً في حياتهم من مأكل وملبس.
6: ج. ويتلر، الهرطقة في المسيحية ص50.
7: كان في الحجاز جالية يهودية قديمة تعود أصولها إلى السبي الذي قام به نبوخذ نصر(605–562 ق.م.) ثم قام خَليفتهُ نبونيدس (556–539 ق.م.) بأخذ قسماً منهم معه عندما احتل تيماء ودَومة الجندل حتى وصل يثرب. (طه باقر، تاريخ الحضارات القديمةص553). ويقول د. شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي ص97: إن كثيراً من اليهود فرّوا إلى الحجاز عندما اصطدموا مع طيطس سنة 70م ومع هارديان سنة 132م.
8 : مجموعة الآباء اليونان ك 21 ص 1278، الرد على كلس 5: 61.
9: مجموعة الآباء اللاتين ك 22 ص 924، الرسالة 13: 89.
10: الشامل في الهرطقات ك 29 ف 7، ومجموعة الآباء اليونان ك 41 ص 401.
11: يوحنا الأسيوي، تاريخ الكنيسة ص 123.
12: قاموس ايشو بن علي ج1ص 148، قاموس الحسن بن بهلول، ج1ص 764. المطران اوجين منا، قاموس دليل الراغبين في لغة الآراميين ص 260.
13: د. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي ص 96. وفي لسان العرب تأتي كلمة حنيف بمعنى (المائل).
14: محمد عزة دروزة، عصر النبي وبيئته قبل البعثة ص 704.
15: سميح دغيم، أديان ومعتقدات العرب ص 48.
16: قاموس ايشو بن علي ج1 ص 185، المطران اوجين منا، دليل الراغبين في لغة الآراميين ص 314.
17: لسان العرب ج 7 ص 267،
18: السيرة النبوية، محمد بن اسحق، إسلام حمزة بن عبد المطلب ص 211–212.
19: سيرة ابن هشام، سبب إسلام عمر ص 159، وكذلك تفسير ابن كثير سورة الأنعام آية 33.
20: صحيح البخاري، كتاب التيمم، باب الصعيد والطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء.
21: ابن الأثير ، أُسد الغابة في معرفة الصحابة ج1 ص595. علماً أن هناك روايات كثيرة بهذا الخصوص.
22: السيرة الحلبة ج1ص 468–470.
23 : محمد عزة دروزة، عصر النبي بيئة قبل البعثة ص 696–719، علماً أن مندائيي أو صابئة حران كانوا قد تعلَّموا هذه الطريقة من مندائيي العراق الذين أطلقوا على نفسهم اسم الصابئة عندما دخل الجيش الإسلامي إلى العراق حيث قاموا بإرسال وفد من المندائين بزعامة الكاهن (داناقا) لمقابلة قائد الجيش لكي يعتبرهم أهل كتاب وليسوا مشركين فقالوا له إنهم الصابئة المذكورون في القرآن، فأبقاهم على دينهم.
24: اختلف الأحزاب أي النصارى ( تفسير الجلالين ص 406).
25: القلشقندي، صبح الأعشى ج6 ص362.
26: الأقنوم كلمة سريانية يصعب تفسيرها بالعربية واقرب معنى للأقنوم هو "خاصية تميزيَّة لجوهر واحد بدون قدم أو حداثة، وهذه الخاصية تتميز بتعيين الوظيفة والصفات فقط، فالنور والحرارة من جوهر واحد ولكن لكل منهما وظيفة وصفات تميزها عن الأخرى، والولادة الأقنومية هي مثل ولادة النور من الحرارة. للمزيد راجع كتابنا تجسد المسيح في القرآن.
27: د. عبد الرحمن عبدالله الشيخ، مترجم ومحقّق كتاب "محمد مؤسس الدين الإسلامي" لمؤلفه جورج بوش في القرن الثامن عشر (1796–1859م) مقدمة المترجم والمحقّق ص77.
28: Arthur Jeffery آرثر جفري، the foreign vocabulary of the qur’ăn الألفاظ الأجنبية في القران (ص280–281) (انكليزي).
29: كلمة عرب هي كلمة وصفية جغرافية وهي كلمة سريانية ومعناها الغرب أطلقها الآراميون القدماء على أقوام البدو الساكنة في صحراء غرب نهر الفرات، لكن بعد الإسلام أصبح مفهوم العرب مفهوماً قومياً. للمزيد راجع كتابنا السريان الاسم الحقيقي للآراميين والآشوريين والكلدان ص327–333.