تصريح صحيح ومهم لبطرك الكلدان لويس ساكو
قبل حوالي أسبوعين ورداً على بعض الكتاب من كنيسة المشرق الآشورية النسطورية، الذين كتبوا قائلين: (نحن نخاف من الحوار مع كنيسة روما الكاثوليكية لأن ذلك سيؤثر على إيماننا، ونشترط أن لا يكون الحوار على حساب الإيمان الذي تسلمته كنيسة المشرق من الرسل)، فصرح البطرك ساكو تصريحاً مهماً، يُستشف منه أنَّ كنيسته الكلدانية في خطر، حيث دافع البطرك عن معتقده الكاثوليكي الذي انتمت إليه كنيسته حديثاً سنة 1553م، ضد كنيسته التاريخية الأم (كنيسة المشرق النسطورية)، قائلاً: إن جميع الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية إيمانها سليم، وليس كنيسة المشرق وحدها،: وطبعاً هو استعمل اسمي الأرثوذكس والبروتستانت كغطاء لإبعاد الخصوصية عن كنيسة روما، لأن هم البطرك الرئيس والوحيد هو أن يقول: إن كنيسة روما الكاثوليكية إيمانها سليم، وللتوضيح أقول:
سنة 497م، وتحت ضغط الفرس قامت كنيسة السريان الشرقيين ومقرها المدائن عاصمة الفرس، باعتناق مذهب نسطور المحروم، وانفصلت عن كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية، فأصبح في العراق كنيستان فقط، سريان أرثوذكس وسريان نساطرة، وعدد قليل من السريان الملكيين أي الروم الأرثوذكس، وعاشت كنيسة المشرق معزولة ومحرومة من كنائس العالم وإلى اليوم، وفي سنة 1553م ولأسباب كثيرة، أهمها سبب نظام الوراثة، فانفصل وتكثلك أكثر من نصف الشعب وانتموا لكنيسة روما التي سمتهم كلداناً، وثبت اسمهم في 5 تموز 1830م، ثم قام الإنكليز بتسمية الطرف الذي بقي نسطورياًن وثبت اسم كنيستهم آشورية في 17 تشرين أول 1976م، ومنذ سنة 1553م حصل تجاذب بين الطرفين، وبدون شك كانت الكفة لصالح الكلدان، دينياً، ثقافياً، اقتصادياً، علمياً..الخ، في استقطاب النساطرة للكثلكة، نظراً لأن كنيسة الكلدان مرتبطة بروما القوية، والكلدان هم سكان مدن كبغداد والموصل، وليس كالنساطرة معزولين في الجبال وغائصين في الجهل، والمهم أن جميع آباء الكلدان كان هدفهم الرئيس هو كسب الآشوريين النساطرة للكثلكة باعتبارها الإيمان المستقيم، والنسطورية هي هرطقة، وأصلاً قرار تسمية المتكثلكين من النساطرة (كلداناً) في قبرص لأول مرة من البابا أوجين الرابع كان على هذا الأساس، إذ يقول: لا يجوز من اليوم فصاعداً أن يُعامل كهراطقة هؤلاء السريان النساطرة الراجعون من النسطرة، ويجب تسميتهم كلداناً، وجميع الذين أصبحوا كاثوليكاً (كلدان)، أساس موقفهم الإيماني هو اعتبار النسطرة هرطقة، وقد قامت روما بطبع كتب الطقوس والصلوات السابقة المشتركة للطرفين من جديد، فحذفت منها كل ما يتعلق بالنسطرة، وتعددت أساليب آباء الكلدان في كسب النساطرة للكثلكة، مثل: إننا أصلا كنيسة وشعب واحد، كنيسة روما عالمية وقوية ستساعدنا، إغراءات مادية وثقافية كفتح مداس وطبع كتب، وطبية كفتح مستشفيات..إلخ، إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يكن الآباء الكلدان يجاملون أو يساومون عليه، هو الكثلكة، فلم يدافع أحداً منهم بصورة علنية أن النسطورية ليست هرطقة باستثناء البطرك ساكو، وأهم الذين عرفوا بمجاملتهم للآشوريين هو المطران أدي شير مخترع عبارة كلدو وأثور، اللآعلمية واللآتاريخية سنة 1912م، التي كان هدفها الفعلي هو كسب الآشوريين للكثلكة، تلاه الأب يوسف حبي، والبطرك بيداويد، وغيرهم، لكن كل هؤلاء كانت الكثلكة عندهم أحمر، وكان هدفهم وأسلوبهم الرئيس لتعاطفهم مع الآشوريين هو كسبهم للكثلكة بالطعن أو الإشارة إلى النسطرة علناً أو تلميحاً، أنها هرطقة، باستثناء البطرك ساكو الذي هو شخصياً لديه أفكار نسطورية واضحة، حيث أنكر بتولية العذراء وغيَّر الطقس، والأهم أنه صرح علناً أكثر من مرة أن كنيسة المشرق (أي كنيسته القديمة التي انفصل عنها سنة 1553م)، لم تكن نسطورية، ونسطور لم يكن هرطوقياً بالمعنى العقائدي، وما زاد حماس البطرك لمدح النسطوريةن هو تفكيره الغير محسوب، معتقداً أنه بهذه الطريقة سيريح الآشوريين النساطرة، وبالتالي سيدفعهم باتجاه الكثلكة أكثر، لكن ما حصل هو العكس تماماً، حيث انقلب السحر على الساحر، فقد فات البطرك ساكو أموراً مهمة عديدة هي:
1: كان الكلدان غالباً ناس بسطاء لا يعلمون ما حصل ولماذا هم كلدان كاثوليك وكيف، لكن التقدم الإعلامي الذي حصل، جعل الغالبية الساحقة من الكلدان، وحتى البسطاء يعلمون أنهم انفصلوا عن النساطرة سنة 1553م وأسباب ذلك.
2: نتيجة الهجرة للغرب، تفاجئ كلدان العراق والشرق الأوسط وأغلبهم بسطاء، كانوا يعتقدون أنه بمجرد وصولهم للغرب سيخرج البابا وروما باستقبالهم وتلبية مطالبهم، لكنهم وجدوا أن كاثوليكيتهم لم تنفعهم الغرب، بل العكس لاحظ مثقفوهم أنه حسب قوانين روما، لا سلطة لبطرك الكلدان على رعيته في المهجر، وسلطته هي في مقر البطركية في العراق وجوارها في الشرق الأوسط فقط.
3: نتيجة قوة الآشوريين سياسياً منذ عشرينيات القرن الماضي ومطالبتهم بإقليم آشور، عاد قسم من الكلدان لكنيستهم وعقيدتهم النسطورية القديمة، وتعاطف قسم آخر من الكلدان، وانخرطوا مع الآشوريين بالعمل السياسي القومي قائلين: نحن كلدان كنيسةً، لكننا آشوريين قوميةً، ومنهم بطريرك الكلدان بيداود، كذلك نتيجة الحروب في المنطقة، نزح آشوري الجبال إلى مناطق الكلدان والتجئوا إلى كنائسهم وتصاهروا معهم، وأصبحوا كلداناً كاثوليكاً كنسياً، لكنهم ظلوا متمسكين بآشوريتهم قومياً، ولكثرتهم تشكلَّت في بعض البلدان أبرشية اسمها أبرشية الكلدان-الآشوريين، لكن لا يوجد في كنيسة الآشوريين النساطرة شخصاً واحداً يقول أنا كلداني، والرعايا الآشوريين في كنيسة الكلدان أصبح لهم خصوصية، لدرجة أن مجمع الكلدان الأخير في 27 آب 2022م، استثناهم من التعلق بالاسم والهوية الكلدانية، وأكثر من ذلك بدأ رجال دين وسياسيين آشوريين نساطرة يتكلمون باسم الآشوريين الموجودين في كنيسة الكلدان ويطالبون بحقوقهم ويعتبرونهم طابوراً خامساً يهددون به بطركية الكلدان بالانفصال، إمَّا بالعودة إلى كنيستهم الآشورية النسطورية القديمة الأم، أو تشكيل كنيسة جديدة، كاثوليكية آشورية تنتمي مباشرة لروما باسم آشورية.
4: الأمر المهم والحلقة الأخيرة التي قصمت ظهر كنيسة الكلدان وقلبت السحر على الساحر هي أن البطرك ساكو ومؤيديه دون أن يعلموا وأن يكون لهم بعد نظر معتقدين أنهم يكسبون ود الآشوريين النساطرة، هو قيام البطرك ومؤيديه بالترويج أن كنيستهم القديمة قبل 1553م، لم تكن نسطورية، ونسطور لم يكن هرطوقياً، إضافة إلى تروجيهم الخاطئ أن بيان سنة 1994م الموقع بين كنيسة المشرق الآشورية وروما، هو اعتراف من روما بصحة معتقد الكنيسة الآشورية، والحقيقة هذا القول هو خدعة للشعب، يشبه خدعةً اسمي كلداناً وآشوريين المزورين والمسروقين من التاريخ العراقي القديم.
وقد أدت تلك الأسباب إلى أن كثيراً من الآشوريين الموجدين في كنيسة الكلدان، بل حتى قسم كبير من الكلدان أنفسهم يعلمون أنهم تكثلكوا وانفصلوا عن كنيستهم النسطورية السابقة، والكثلكة هي الوحيدة التي تميزهم عنها، لذلك أصبحوا يستألون: إذا كانت كنيستنا السابقة ليست نسطورية، والنسطورية ليست هرطقة كما يقول البطرك ساكو وغيره، وروما اعترف سنة 1994م بصحة إيمان كنيسة المشرق، ونظام الوراثة قد انتهى في كنيسة المشرق الآشورية سنة 1976م، فلماذا إذن نحن باقون في كنيسة الكلدان؟، ولماذا انتمينا وخضعنا لروما أصلاً، وفقدنا خصوصيتنا الشرقية المستقلة؟، ولماذا لا نعود لكنيسة المشرق الآشورية التي هي سيدة نفسها ولها سلطة على جميع رعاياها في العالم؟، وبطركها يوازي البابا ويوقع معه، ويحمل لقب قداسة مثله، وليس مثل بطرك ساكو وهو أقل من بابا ولقبه غبطة، خاصة أن البطرك ساكو قَبَّل يد بطرك الآشوريين في أمريكا، وهو إجراء صحيح، لأن بطرك الآشوريين هو الرئيس الأعلى لكنيسته، بينما البطرك ساكو هو رئيس كنيسة تابعة لروما (مثل رئيس دولة ورئيس إقليم).
لذلك جاء تصريح البطرك ساكو أعلاه لأول مرة بهذه الطريقة يدافع عن كنيسته الكاثوليكية ضد كنيسته القديمة، وتيَّقنَ تماماً أن نقطة قوته الوحيدة أمام كنيسة المشرق الآشورية هي تمجيد الكثلكة ضد النسطرة، ومحاولته تلميع النسطرة سيحوَّل الكلدان إلى آشوريين، وليس العكس كما اعتقد هو، فاليوم أصبح موقف كنيسة المشرق أقوى منه.
ملاحظة مهمة: سنة 1994م صدر بيان بين كنيسة المشرق الآشورية وروما، تنازل فيه الآشوريون عن بعض ثوابتهم النسطورية بهدف الاقتراب من روما والعالم المسيحي، فتنازلوا عن اعتبارهم من يستعمل لقب والدة الله هو هرطقة (أنظر مثلاً، مجامع كنيسة المشرق، مناظرة 612م، مع ملاحظة أن اسم الكتاب الأصلي بالسريانية هو: المجامع النسطورية، لكن يوسف حبي زوَّر اسمه عندما ترجمه)، لكن روما لم تتنازل شعرة واحدة، فهي تستعمل لقب أم المسيح أصلاً إلى جانب والدة الله، ولم ترفع الحرم عن نسطور، ولم تذكر اسمه في البيان، ولم تلغي مجمع إفسس 431م الذي يحرم نسطور، بل قال البيان: (إن كنيسة روما تأسف لعدم استطاعتها الاحتفال معاً مع كنيسة المشرق الآشورية لعدم توافق إيماننا التام، ويتعهد الطرفان بعمل كل ما يمكن لإزالة عقبات الماضي التي لازالت تعوق الشركة الكاملة بين الكنيستين)، لكن الآشوريين وبعض الكلدان المتعاطفين معهم ويعتقدون أنهم يكسبون ود الآشوريين، أو بعض الكلدان الذين يحملون أفكار نسطورية كالبطرك ساكو وغيره، صوَّروا وروَّجوا أن روما اعترفت بصحة إيمان كنيسة المشرق، وأن النسطورية ليست هرطقة، وهو ما ليس صحيحاً، بل غشاً، فعدا أن بيان 1994م لم يذكر أن نسطور ليس محروماً، وعدا أن كنيسة روما توقع مع كنائس أخرى بيانات تعتبر النسطورية هرطقة، وتعتبر مجمع 431م أساسي في إيمانها، فبعد سنتين 1996م، أصدر البابا يوحنا بياناً قال فيه بالاسم: إن نسطور هرطوقي، علماً أن الكنيسة الأنكليكانية وفي اللجنة الرسمية الدولية للحوار والكنائس الأرثوذكسية الشرقية وقعت بياناً في أرمينيا، 5-10 نوفمبر 2002م، جاء فيه: نرفض كلاً من هرطقة نسطور وأوطاخى، لذلك الكنائس المسيحية الكبرى الثلاث، الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، إضافة للأنكليكان، التي تعترف ببعضها البعض، لكنها لا تعترف بكنيسة المشرق إلآشورية، والكنيسة الآشورية لم تُقبل عضويتها في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وهذا هو نص بيان 1994م للكنيسة الآشورية مع روما الذي لم يرفع الحرم عن نسطور، وكذلك منشور البابا يوحنا 1996م، الذي يُهرطق نسطور بصورة واضحة، وبالاسم.
وشكراً/ موفق نيسكو