شاعر الوفاء مقال الأستاذ ميلاد كوركيس

أضف رد جديد
توما بيطار
عضو
عضو
مشاركات: 446
اشترك في: الاثنين سبتمبر 09, 2013 7:17 pm

شاعر الوفاء مقال الأستاذ ميلاد كوركيس

مشاركة بواسطة توما بيطار »

توما بيطار … شاعر الوفاء والحنين في ذاكرة الجزيرة السورية

إعداد : Milad Korkis
صاحب مشروع : شخصيات صنعت ذاكرة الوطن


ولد توما بيطار في قرية خربة عدنان القريبة من المالكية في أقصى الشمال الشرقي من سورية عام 1953 وكان ميلاده أشبه بجرس صغير يرن في قلب الجزيرة التي عرفت عبر القرون بأنها أرض التعدد والخصب والذاكرة الممتدة من سومر حتى حضارات الفرات والخابور فبين سنابل القمح التي لا تعرف الكلل وحقول العدس التي تفوح منها رائحة الأرض حين تتفتح بذورها خرج هذا الطفل حاملاً معه براءة القرى وطيبة الفلاحين وبساطة البيوت الطينية التي كانت تُصنع من عرق الرجال وحكايات النساء في الليالي الطويلة وفي تلك البيئة التي لا تعرف الزيف ولا تقبل إلا الصدق تعلم توما أولى أبجديات الحياة وتشرّب حب الوفاء الذي ورثه عن أبيه وأمه والأرض التي أنجبته

لم يكن توما طفلاً عادياً بل كان مشدوداً منذ صغره إلى الأصوات التي تتناثر في الطبيعة من زقزقة العصافير إلى أنين النايات التي كان الرعاة يعزفون عليها في البادية وإلى أغاني النسوة في الحقول حين يرددن المواويل فكان يجلس صامتاً بعينين تلمعان كقطعتين من زجاج ناصع وهو يستمع إلى ما يدور حوله وكأنه يختزن في داخله كل تلك الصور ليحولها فيما بعد إلى شعر يفيض بالحنين وكان الهدوء الذي يحيط بالقرية لا يقطع إلا بوقع أقدام الماشية وأجراسها وبصوت الريح التي تعصف عبر السهول في ليالي الشتاء الباردة فيغدو الطفل توما مأخوذاً بهذا المشهد الكبير وهو يكتشف أن العالم أكبر من بيت العائلة وأن الكلمات يمكن أن تكون بيتاً آخر يسكنه الإنسان

كبر توما في حضن قرية تعرف معنى البساطة والصدق ولم تكن المدرسة بالنسبة إليه مجرد مكان للتعلم بل كانت نافذة يطل منها على العالم فقد جلس على مقاعد الدراسة بخشوع التلميذ الذي يرى في الحرف سر الوجود وكان أساتذته يدركون أن هذا الطفل يحمل شيئاً مختلفاً عن أقرانه فذاكرته قوية وخياله رحب وعاطفته صافية لذلك كان يلتقط الكلمة ويحفظها ثم يعيد ترديدها وكأنه يعزف بها على وتر داخلي لا يسمعه سواه وهكذا بدأت علاقة توما المبكرة مع الشعر فهو لم ينتظر حتى يكبر ليكتب بل أخذ القلم منذ يفاعته وأخذ يسطر على دفاتره كلمات مبعثرة لكنها كانت تحمل البذور الأولى لعالمه الشعري الذي سيتشكل لاحقاً

وفي مدينة المالكية التي عُرفت بين أهلها باسم ديريك وجد توما نفسه أكثر التصاقاً بالحياة الثقافية فقد كانت ديريك مدينة صغيرة لكنها تختزن تنوعاً كبيراً من البشر واللغات واللهجات وكانت ملتقى للتجار والرعاة والمثقفين والسياسيين وهي مدينة تعود جذورها إلى ما قبل التاريخ لكنها أيضاً مدينة حديثة تتلمس طريقها في سورية ما بعد الاستقلال وهناك التقى توما بأبناء جيله من عشاق الكلمة فتفتحت أمامه فضاءات جديدة وأخذ يقرأ بجدية أكبر ويكتب بشغف أعظم حتى صار اسمه يتردد بين رفاقه بأنه أول من عاقر الكلمة شعراً بينهم وأنه لا يشبه أحداً في حماسته وإصراره على جعل الشعر نبض الحياة اليومية

لم تكن طفولة توما مجرد لعب ولهو بل كانت محملة بتجارب إنسانية جعلته يسرع إلى النضج فقد عرف معنى التعب مبكراً حين رأى والده يكد في الأرض ويزرع ويحرث دون كلل وعرف معنى الحنان حين رأى أمه تسهر الليالي على راحة أبنائها وتغني لهم لتخفف عنهم برد الشتاء وعرف أيضاً معنى الحزن حين كان يسمع أخبار الهجرة التي بدأت تأخذ بعض أبناء قريته بعيداً عن أرضهم بحثاً عن رزق في المدن الكبرى أو في المهجر فكل هذه الصور تراكبت في داخله وصارت زاداً روحياً غذى شعره لاحقاً وجعل قصائده تنبض بالوفاء للأرض والإنسان معاً

وعندما كبر قليلاً وبدأ يشارك في الحياة العامة اتجه توما نحو التعليم فعمل معلماً ومديراً وكانت هذه التجربة بالنسبة إليه امتداداً طبيعياً لشغفه بالكلمة فهو لم ير في التعليم مجرد وظيفة بل رسالة ومسؤولية فالمعلم في نظره هو صانع الأجيال وحارس القيم وقد أحب طلابه كما أحبوه وكان قريباً منهم بروحه وعطفه وبما يزرعه فيهم من إيمان بالمعرفة وبالإنسان وقد جعل المدرسة مساحة لا لتلقين الدروس فقط بل لتعليم معنى الصدق والوفاء والانتماء فكان يرى في كل طالب مشروع إنسان قادر على أن يضيف إلى الحياة شيئاً من الجمال

أما على الصعيد الشعري فقد أخذت تجربة توما تتبلور بشكل أعمق في سبعينيات القرن الماضي فكان ديوانه الأول "حبك كان رواية" عام 1977 علامة فارقة في مسيرته إذ عبّر فيه عن الحب ليس كعاطفة عابرة بل كقدر يحدد مصير الإنسان وأسلوبه في مواجهة الحياة وجاء هذا الديوان محملاً بالصور الرومانسية والوجدانية التي كانت تجذب القراء وتكشف عن شاعر يملك لغة خاصة به وفي عام 1980 أصدر ديوان "قصائد حب إلى ريما" الذي جسّد فيه صورة المرأة كحبيبة وأم ووطن فكانت ريما رمزاً لكل ما هو جميل ونقي وفي عام 1996 أطل بديوان "مراثي لسيدة البساتين" حيث أخذت نبرته تميل إلى الحزن والحنين وهو يرثي المرأة التي تمثل في شعره الأم والأرض والحبيبة معاً

ثم جاء ديوان "الطوفان" عام 1998 ليعبّر عن رؤية درامية للحياة والإنسان إذ صور فيه الانكسارات والهزائم التي تعصف بالبشر لكنه لم يفقد الأمل في أن يكون هناك ضوء في نهاية النفق وفي العام ذاته أصدر مجموعته القصصية "تداعيات مجنون" التي كشفت عن قدرته على السرد وامتلاكه لعين ترى التفاصيل الصغيرة بعين شاعر يلتقط المعاني من أبسط المواقف وفي عام 2000 أصدر ديوان "أبحث عن وطن" الذي عبّر فيه عن إحساس عميق بالغربة والحنين وعن قلق الإنسان المعاصر وهو يبحث عن مكان يحتويه وعن هوية لا تضيع وسط صخب العالم

كان توما بيطار يعيش في الجزيرة لكنه يحمل في قلبه هموماً تتجاوز حدودها فقد كان مشدوداً إلى قضايا الإنسان أينما كان وكان صادقاً في مشاعره إلى درجة أن من يعرفه يصفه بأنه رجل لا يعرف المساومة ولا يرضى بالزيف وكان في الوقت نفسه إنساناً اجتماعياً قريباً من الناس يعرفونه في أفراحهم وأحزانهم ويجدون فيه ذلك الصديق الذي يمكن أن تركن إليه القلوب وكان زوجاً محباً وأباً حنوناً يرى في أسرته امتداداً لرسالته في الحياة وكان بيته مفتوحاً للأصدقاء وللشعراء ولأبناء قريته الذين كانوا يجدون فيه سنداً وملاذاً

الغربة كانت حاضرة في حياة توما فقد عاش مثل كثيرين من أبناء الجزيرة صراع الانتماء بين البقاء في الوطن ومواجهة قسوة الحياة أو الرحيل بحثاً عن فرص أفضل ولم تكن الغربة بالنسبة إليه مكاناً بقدر ما كانت حالة شعورية يعيشها حتى وهو في قلب الوطن فقد كان يشعر أحياناً أنه غريب وسط مجتمعه لأنه يملك رؤية تختلف عن السائد وكان يقول إن الغربة الحقيقية ليست أن تبتعد عن الأرض بل أن تفقد الصدق في العلاقات وكان بذلك يعكس تجربة الكثيرين الذين وجدوا أنفسهم موزعين بين الوطن والمهجر وبين الأمل والخذلان

عرف توما بيطار بين أبناء جيله بأنه شاعر الوفاء فكل من التقى به يدرك أنه وفيّ لأصدقائه لا يغيره الزمن ولا تبدله الظروف وقد شهد على ذلك علاقته القديمة بالشاعر إسحق قومي إذ جمعتهما صداقة عميقة تعود إلى أيام الشباب وتواصلت رغم الغربة والمسافات وكان كل منهما يرى في الآخر مرآة لذاته وصوتاً يؤكد أن الكلمة يمكن أن تصمد في وجه كل العواصف وقد كتب توما ذات يوم لإسحق كلمات تشهد على صدق العلاقة بينهما وتكشف عن شخصية شاعر يعرف معنى الصداقة ويعطيها قيمتها العليا

إن قراءة تجربة توما بيطار هي في جوهرها قراءة لتاريخ الجزيرة السورية الثقافي والاجتماعي فالجزيرة لم تكن مجرد أرض زراعية بل كانت فضاءً احتضن تنوعاً مذهلاً من البشر الذين عاشوا جنباً إلى جنب من عرب وكرد وسريان وأرمن وآشوريين وغيرهم وهذا التنوع جعل الثقافة في المنطقة غنية ومتعددة الأصوات وكان توما واحداً من الذين جسدوا هذا التعدد في شعرهم فقد حمل في قصائده أصوات الفلاحين والمغتربين والنساء الحالمات والعمال البسطاء وكان يرى فيهم صورة الوطن الحقيقية وكان يردد أن الشعر لا قيمة له إن لم يكن وفياً للإنسان العادي

لم يكن توما من الشعراء الذين يبحثون عن الشهرة أو يسعون إلى الأضواء بل كان يرى أن الشعر رسالة قبل أن يكون مهنة وكان يؤمن أن الشاعر الحقيقي هو الذي يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يكتب لذلك ظل على مدى عقود مخلصاً للقلم وللكلمة ولم يتوقف عن الكتابة حتى حين ضاقت به السبل أو حين لم يجد من ينشر له فقد كان يعتبر أن القصيدة كائن حي يولد حين يكتمل في داخله ولا يحتاج إلى مناسبة أو جمهور ليخرج إلى النور وكان يكتب أحياناً على أوراق صغيرة يحتفظ بها في جيبه ثم يعود إليها ليحولها إلى قصائد كاملة

ولأن الشعر عند توما بيطار لم يكن مجرد تجربة فردية بل تجربة جماعية فقد كان حريصاً على التواصل مع أبناء جيله ومع الأجيال اللاحقة من الشعراء وكان يفتح لهم قلبه وبيته ويدعمهم بما يستطيع وكان يقول إن الشعر مثل النار المقدسة التي يجب أن نحملها من جيل إلى آخر كي لا ينطفئ نورها ولهذا كان حضوره في الوسط الثقافي حضور الأب والأخ والمعلم في آن واحد وكان كثيرون يعتبرونه قدوة في الصدق وفي الوفاء وفي الإصرار على أن تكون الكلمة وفية لمعناها

حين نقرأ أعمال توما بيطار اليوم نجد أنها تحمل مزيجاً فريداً من الرومانسية والواقعية من الحزن والأمل من الغربة والانتماء وهذا المزيج هو ما يجعل شعره قريباً من القلب وبعيداً عن الادعاء فهو شاعر يعرف كيف يلتقط التفاصيل الصغيرة ويجعل منها صوراً شعرية بديعة كما يعرف كيف يتعامل مع القضايا الكبرى ويصوغها بلغة صافية لذلك يمكن القول إن تجربة توما بيطار هي شهادة على زمن بكامله وعلى جيل عاش بين الحلم والانكسار بين الأمل واليأس لكنه ظل متمسكاً بالوفاء كقيمة عليا

إن حياة توما بيطار لم تكن حياة شاعر فقط بل كانت حياة إنسان آمن أن الشعر لا ينفصل عن السلوك وأن الكلمة لا معنى لها إن لم تجسدها الأفعال لذلك عاش وفياً في صداقاته وفي أسرته وفي عمله وفي انتمائه إلى أرضه وجزيرته وسورية كلها وكان يرى أن الإنسان يُقاس بما يعطي لا بما يأخذ ولهذا بقي في ذاكرة من عرفوه صورة رجل يفيض بالمحبة والصدق وصار اسمه مرتبطاً بالوفاء والحنين

#توما_بيطار #الشعر_السوري #الجزيرة_السورية #خربة_عدنان #ديريك #المالكية #الحسكة #ميلاد_كوركيس #شخصيات_صنعت_ذاكرة_الوطن #MXR #milad_korkis
أضف رد جديد

العودة إلى ”܀ منتدى الشاعر توما بيطار“